حالما دلفت في سيارة الأجرة عرفت من ملامح سائقها أنه غالباً عربي ، وفرت عليه مشقة الحوار الذي مللته والذي يبدأ بكلمة : «هل أنت هنا في إجازة أم عمل ؟ « وعادةً ماينتهي بامتعاض من المبلغ المدفوع بسبب أن معظم السائقين يرفعون سقف توقعاتهم حالما يعرفون بلاد الراكب. بعد وهلة أحسست بأني ظلمت الرجل وأن الناس تختلف عن بعضها ، هذا الرجل هارب من لظى المنطقة الملتهبة مثل كثيرين من إخوته الذين ابتلعهم المتوسط. قلت : «مجنون هذا العالم الذي بتنا نعيش فيه» فقال ببلاغة أذهلتني :»حان الوقت لأن ينسحب المرء من العالم الكبير وينكفئ على عالمه الصغير مع أسرته» ، صدق الأديب الروسي دويستوفسكي عندما قال : «الشعب هو المعلم..فقط استمعوا له». حزنت كثيراً عند مرورنا أمام مكتب ذي واجهةٍ زجاجية كان مكتظاً بأناسٍ شرق أوسطيي الملامح التي يكسوها خوفٌ وبؤس.. وأمل ، علمت من صديقي الجديد أنهم لاجئون من مختلف الدول العربية يعبئون أوراقاً تتراوح بين طلبات المعونة والهجرة ، تذكرت فوراً مقولة أحد الكتاب حين قال : «كان المفترض عقلاً ومنطقاً وشرعاً أن يهاجر الغرب إلى أرض العرب، لكن انقلبت الآية فهاجر كثير من العرب إلى بلاد الغرب؛ فما دخلنا مدينة في أوروبا وأميركا، إلا وجدنا الجالية العربية تملأ الجامعات والمدارس والمصانع والمساجد، منهم من هرب من القمع والجَلد والتعذيب وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات، وآثار التعذيب في صدره وظهره، ومنهم من سافر لطلب الرزق بعد أن عضه الفقر ونهشه الجوع ودمّرته البطالة والعطالة، ومنهم من ارتحل لطلب المعرفة . وبعدما وصل هؤلاء العرب إلى الغرب تحولوا إلى مهندسين وأطباء وأساتذة وكتّاب ومفكرين؛ لأنه فتحت أمامهم أبواب المعرفة والعمل والإنتاج والإبداع « مابين عامي 1870 و 1920 هاجر الى أمريكا مليون إنسان من هذه البلاد التي أكتب منها ، وهو مايعادل ربع تعداد سكانها آنذاك بحثاً عن حياةٍ أفضل في مزارع الولايات الوسطى ، وهاهم أحفادهم اليوم يزورونها كسياح أمريكيين منبهرين بنظامها وجمالها ، وهاهي ترد الفضل وتستقبل الناجين من بلادٍ تدعي الخيرية بين الأمم. الى اللقاء
مشاركة :