خليفة بن سلمان.. وداعًا للفارس الذي ترجَّل

  • 11/17/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عَظَّم الله أجركم يا أهلي في خليفة بن سلمان.. عَظَّم الله أجرك يا البحرين في خليفة بن سلمان.. عَظَّم الله أجر العالم في القامة الوطنية التي عشقت تراب الوطن.. رجل المبادئ والقيم.. رجل السياسة والإنسانية الذي أفنى أكثر من خمسة عقود من عمره في خدمة البلاد.. رجل السلام والرؤية الحكيمة الثاقبة.. الشخصية الراقية التي أسَّست قواعد نهضة بحرين.. الرجل المعطاء الذي سجَّله التاريخ أنموذجًا فريدًا جامعًا للحكمة والتسامح والقيادة والتواضع والإدارة الفذّة.. إلى روحه الطاهرة وداعًا.. فقد انتهت الرحلة يوم (11 نوفمبر 2020م) وترجَّل فارس النهضة لتستمر الحياة بما تركه من أساسات التنمية والحضارة وركائز الشموخ والعزّة..  فعند الحديث عن صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة طيَّب الله ثراه، فنحن أمام قامة وطنية غير عادية، فهو مهندس الاستقلال ورجل الدولة الذي وضع القواعد الأساسية لبناء البحرين ونهضتها، وعاصر جميع التحديات والتهديدات التي واجهت البحرين، وأدار الأزمات التي مرَّت على تاريخها بحكمة واقتدار.  فقُبيل الاستقلال وبعده، كانت التحديات كبيرة، ورياحها قوية وعاتية على دولةٍ صغيرة كالبحرين، إلا أن مواقف سموّه في إدارة الأزمات كانت ثابتة، ومتمسّكة بالقيم والمبادئ ومدافعة عنها بكل قوة وحزم وثبات في عالم متغيّر ومتفاوت في أفكاره وأخلاقه وتراثه.  ولأن التحدي كان كبيرًا لوجود وجهات نظر مختلفة حول الكثير الكثير من القضايا والأحداث والأطماع الإقليمية والدولية، نظرًا لخلفياتها وارتباطاتها السياسية والدينية والتاريخية المتعدِّدة، والتي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بتاريخ البحرين الحديث في ظل التسامح والانفتاح على الآخر، عكسته روح التعايش السلمي المتأصلة في الشعب البحريني الأصيل منذ الأزل، إلا أن سموه تمكَّن من جمع كل الخيوط بيده لإدارة الأزمات والتحديات لتمضي البحرين قوية شامخة في مسيرة التطور والإنجاز والإبداع والبناء الحضاري.  ومن هنا، وبحكم الموقع الجغرافي لمملكة البحرين فقد واجهت على مرّ تاريخها وحتى الآن الكثير من المخاطر والتهديدات الإقليمية والدولية والأطماع التي عاصرها المغفور له صاحب السمو الملكي الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، ومنها:  أولاً: قرار بريطانيا في (يناير 1968م) الانسحاب من شرق السويس وتصفية جميع قواعدها العسكرية بسبب عجزها عن الإنفاق على شبكة مصالحها الاستراتيجية والتجارية والترتيبات العسكرية الدفاعية في تلك المنطقة، فوجدت إمارات الساحل المتصالح نفسها في مواجهة مباشرة مع الصراعات الدولية والإقليمية التي أحاطت بها من كل جانب، والتي كان أبرزها:  1. القوة الإيرانية: فبعد انكشاف الغطاء الأمني عن منطقة الخليج بالانسحاب البريطاني منها، تزايدت قوة وخطر دول شمال الإقليم، وتركَّز ذلك الخطر في بوليس الخليج (إيران الشاهنشاهية) التي انقضَّت على الجزر الإماراتية الثلاث والتي تمتاز بأهمية استراتيجية وعسكرية وسياسية واقتصادية عظيمة وأعلنت فرضها لمنطق القوة في المنطقة، وادَّعت أن البحرين جزء من إمبراطورتيها، ليلي ذلك نجاح (الثورة الخمينية) عام (1979م) وصعود الإسلاميين المتشددين لمركز الحكم، فلم تختلف الاستراتيجية الإيرانية تجاه الخليج حتى بعد تحوّل نظام الحكم في إيران من (نظام إمبراطوري) إلى (نظام جمهوري إسلامي)، ما شكَّل تصعيدًا سياسيًا وعسكريًا خطيرًا كان على دول الخليج مواجهته.  2. المَدّ الشيوعي الروسي: والذي يهمه كثيرًا الوصول إلى مياه الخليج الدافئة، فبدأ بغزو المنطقة العربية من خلال دعم وتشكيل (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، ثم احتلال أفغانستان في حرب استمرت من (ديسمبر 1979م) وحتى (فبراير 1989م) أطاحت بالنظام الملكي وأقامت نظامًا شيوعيًا يدين بالولاء لموسكو، وفي كل ذلك تغييرات خطيرة في الإقليم تهدِّد استقرار المنطقة ككل.  3. المَد الثوري العربي: الذي انطلق في خمسينيات القرن الماضي بعد نجاح ثورة الضباط الأحرار في مصر عام (1952م) وسقوط الملَكية التي تبعها تساقط العديد من الملكيات العربية بسبب الانقلابات العسكرية والبيان رقم (واحد) وقيام الجمهوريات الأيديولوجية في العراق وسوريا واليمن، مما عقَّد الأوضاع، خصوصًا وأن الشعوب العربية وجدت حلمها في الرئيس جمال عبدالناصر الذي سيقضي على الاستعمار وينشر الحرية والعدالة والمساواة وغيرها من شعارات الثورة المصرية، وقابلها من ناحية أخرى الانقلابات البعثية التي أقامت أنظمة ثورية ديموقراطية في سوريا والعراق تتبع النظام الشيوعي في موسكو، فشكَّلت كل تلك التطورات قلقًا لدى الإمارات الصغيرة في الخليج العربي خصوصًا وأنها لم تكن تمتلك أسس النظام السياسي والإداري والعسكري للدولة الحديثة.  ثانيًا: مفاوضات الاستقلال: نتيجةً للتطورات والتحديات كان على (البحرين) البدء فورًا في مفاوضات سياسية ودبلوماسية صعبة لتأكيد سيادتها الوطنية، فبدأ المغفور لهما (صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة حاكم البحرين وتوابعها وأخوه صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة) العمل على ترتيب استقلال البحرين، فكان قرار التحرّك الدبلوماسي بالتوجه إلى القوى الكبرى ذات المصالح في المنطقة والدول العربية ذات الثقل السياسي والاقتصادي، فقام سموهما بعدّة خطوات دبلوماسية على أبعاد متعددة، بدأت بزيارات رسمية لعواصم الدول الكبرى (فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية) لكسب تأييدها ودعمها لاستقلال البحرين، حيث أكَّدت جميعها على أهمية تفاهم البحرين ودّيًا مع إيران لحل المشكلة القائمة بينهما لترسيخ دعائم الأمن والسلم والاستقرار في منطقة الخليج، لما يشكِّله استقراها من أهمية لضمان تدفق النفط وامداداته عبر خطوط الملاحة الدولية في أعالي البحار، ثم تمّ إجراء مفاوضات سرية معقدّة بوساطة كويتية قادها صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت رحمه الله الذي كان حينها وزيرًا للخارجية، وأجراها صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة وسمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة مع كبار السّاسة الإيرانيين بين جنيف وباريس وانتهت بالاتفاق على إرسال المبعوث الأممي (ونسبير) لاستطلاع رغبات شعب البحرين وانتمائهم للأمة العربية، وقدَّمت لجنة تقصّي الحقائق تقريرها في (مايو 1971م) الذي أنهى الادّعاءات الإيرانية في البحرين ودّياً وعبر الوسائل الدبلوماسية، وسجَّل صاحب السمو الملكي الشيخ خليفة بن سلمان موقفًا تاريخيًا صلبًا في وجه المطامع الإيرانية الخطيرة في البحرين بما تحلَّى به سموه من قيادة حكيمة فذّة انتهت باعتراف العالم بأسره بحقوق البحرين وسيادتها واستقلالها وعروبتها.  ثالثًا: أحداث البحرين (فبراير 2011م): وبما أن الأطماع مستمرة والأهداف البعيدة قائمة، فقد ظلَّ (خليفة بن سلمان) في قلب الحدث يعمل ليل نهار من أجل تأمين استقرار البحرين، فبعد أن رفعت عدد من الجمعيات السياسية مطالباتها (الوطنية) للإصلاح والتحديث، انحرفت عن خطها الوطني ومدَّت يدها لإيران التي عملت على استغلال هذه المطالب تحت شعارات (موجة الربيع العربي) التي مرَّت بالمنطقة العربية في تلك الفترة لخلق أزمة سياسية وإشعال فتيل الطائفية بين أبناء الشعب الواحد، والترويج الإعلامي لادّعاءات انتهاكات حقوق الإنسان لتحقيق الأهداف الإيرانية الشيطانية في السيطرة السياسية والدينية على منطقة الخليج العربي ودوله بمساعدة مؤسفة من بعض الدول الخليجية التي وجدت فرصتها تلك الأحداث لتنفيذ خطتها في تدمير الأنظمة الخليجية الحاكمة، فقد بذلت قيادة البحرين كل جهدها لاحتواء هذه الأزمة، وساهمت إرادة الشعب البحريني الأصيل الذي التفّ حول قيادته الوطنية الشرعية في الدفاع عن سيادة البحرين التي تعرَّضت إلى ضغوط هائلة وتدخلات مؤسفة من دولة خليجية شقيقة ودول إقليمية إسلامية وصديقة قامت بدعم الإرهابيين بالمال السياسي والتدريب وتأجيج العنف الطائفي، ولقد كان (خليفة بن سلمان) مُدركًا لضخامة الحدث ومن يقف وراءه، وكان يعلم تمامًا أهمية اتخاذ مواقف دبلوماسية وسياسة متوازنة في تلك الأوقات الحرجة لتعزيز مكانة البحرين الإقليمية والدولية، وتأكيد سمعتها كدولة مستقلة لها دور مهم في تعزيز الأمن والسلم الدوليين في منطقة الخليج العربي الغنية بالثروة النفطية؛ لذلك تمكَّنت وقفاته الشجاعة وسياسته الحكيمة ودبلوماسيته المتمكِّنة من جمع خيوط الأزمة الكبرى وإفساد كل الخطط الشيطانية والمحاولات التي أرادت شق صف المجتمع البحريني الواحد، وجمَعَ كل الشعب تحت راية البحرين الموحَّدة وقيادتها الرشيدة، وهو ما أمَّن لشعب البحرين ومواطنيه الأمن والاستقرار وتجاوز الأزمة والتطلّع إلى بناء الوطن بعد الأحداث المؤسفة وتداعياتها. من هنا نلاحظ، أن سياسة (خليفة بن سلمان) ودبلوماسيته في علاقات البحرين الخارجية، تُشكِّل حجر الأساس لانطلاقة البحرين القوية التي استطاعت من خلالها رسم خطًا واضحًا ورؤية متكاملة في الانفتاح على العالم، بما يحقِّق مصالح البحرين الوطنية في عالم أصبحت فيه العلاقات بين الدول أكثر تشابكًا وتعقيدًا، وأصبح للتكتلات بمختلف أشكالها السياسية والاقتصادية أهمية كبرى في تحديد وصياغة مستقبل العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. وحول (مجلس التعاون لدول الخليج العربية)، فلقد كان (خليفة بن سلمان) مؤمنًا بمجلس التعاون ودوره المهم في تعزيز الأمن الخليجي أمام الأطماع الخارجية؛ لذلك كانت لتوجيهاته ومتابعته الدور الرئيسي في اتخاذ البحرين الخطوات المتسارعة السابقة عن دول مجلس التعاون لتنفيذ كافة الاتفاقيات الأمنية والعسكرية والاتفاقيات والخطط الاقتصادية والتجارية التي أقرتها القمم الخليجية منذ تأسيس المجلس في (مايو 1981م).  كما كانت توجيهاته واضحة للسياسة الخارجية البحرينية مع دول مجلس التعاون التي ارتكزت على ما يربط دول مجلس التعاون من وشائج الأخوة والدين والدم والمصير المشترك والمبادئ الحضارية التي تحث على الاحترام المتبادل وبناء صروح التعاون على قاعدة تحقيق المصالح المشتركة، وهو الأمر الذي أسهم في الارتقاء بمكانة المملكة وجعل منها عنصرًا فاعلاً ومؤثرًا في الدائرة الخليجية والدائرتين الإقليمية والدولية.  ولا يمكن أن تمرّ هذه النقطة دون ذكر الموقف الوطني الأصيل لخليفة بن سلمان عندما أصرَّت دولة قطر في القمة الخليجية التي عُقدت في الدوحة عام (1990م) على ضرورة إيجاد حل لخلافها مع البحرين حول جزر حوار وشبَّهته بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، واعتبرته البند الوحيد على جدول أعمال القمة التي كان أمامها حدثًا أعظم وأكثر أهمية آنذاك وهو الاحتلال العراقي على دولة لكويت، فوجد سموه أن المساومة على البحرين غير مقبولة تحت أيّ ظرف، وأن مصالح البحرين العُليا تتطلَّب اتخاذ القرار الصعب الذي يعلم الجميع داخل قاعة القمة بمدى جسامته وخطورته على منظومة مجلس التعاون، فقرَّر الانسحاب من الجلسة، ووصلت الطائرة لتقل سموه والوفد المرافق إلى البحرين في لحظة قاسية على قلبه في أن يكون بعيدًا عن مشاركة إخوانه قادة دول المجلس للوقوف أمام الأطماع العراقية ضد الكويت ودول مجلس التعاون، إلا أن جهود الوساطة التي قام بها المغفور له الملك فهد بن عبدالعزيز بتكليف سمو الأمير الراحل سعود الفيصل والتعهّد بإيجاد الصيغة المناسبة لحل المشكلة التي أثارتها قطر، وشعور سموه بالمسؤولية التاريخية تجاه الكويت وشعبها القريب إلى قلبه، أعادته لمشاركة إخوانه في اتخاذ الموقف الذي يؤكِّد وحدة الصف الخليجي أمام الاحتلال العراقي الغاشم وكل تبعاته لتنهي القمة أعمالها بعدد من القرارات الحاسمة المتعلّقة بشجب الاحتلال العراقي جملةً وتفصيلاً.  إن التاريخ يشهد على مواقف صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة المشرِّفة التي اتسمت بالدبلوماسية والحكمة والشجاعة والإيمان بأهمية دور البحرين خليجيًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا، وهي مواقف تعزِّز حماية حاضر ومستقبل البحرين وشعبها الأصيل، عبر بناء علاقاتها بالدول الأخرى على أسس احترام مبادئ ومواثيق الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية وحُسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وعلى القيم التي تدعم روح التسامح والتعايش والحوار البنَّاء.  وفي جانب آخر، وجد الشعب البحريني في شخص (خليفة بن سلمان) الأب الحنون الكريم المتواضع، الذي لا يهدأ له بال ولا يطمئن له قلب إلا بعد أن يعطي كل ذي حقٍ حقه، وتشهد على ذلك زياراته الميدانية لمختلف مناطق البحرين، ولقاءاته المباشرة مع المواطنين، ومجالس سموه التي يُشكِّل حضورها صورة ناصعة للأطياف والمذاهب والأديان والتوجهات التي تحتضنها مملكة البحرين، فمجلس (خليفة بن سلمان) هو مجلس جامع للبحرينيين وغير البحرينيين بكل اختلافاتهم.  كما أن أسلوب سموه في القيادة حقَّق للبحرين نهضة اجتماعية وعلمية وثقافية واقتصادية عظيمة بقيادة حضرة صاحب الجلالة الملك المفدى ودعم صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ما جعل من البحرين دولة نموذجية يُحتذى بها في مختلف المجالات وتحظى بتقدير واحترام وثقة دول العالم أجمع بمواقفها المتوازنة، ويدها الممدودة للسلام والتعاون وفق مبادئ التعاون الدولي والاحترام المتبادل، حيث استطاعت أن ترسِّخ لنفسها مكانة متميزة في مختلف المحافل الإقليمية والدولية لتنطلق بعدها نحو آفاق أوسع من النجاح وفق قاعدة مهمة هي الإيمان التام بأهمية تعزيز العلاقات مع جميع الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات الدولية بالشكل الذي يخدم المصالح الوطنية في المقام الأول.  هذا هو (خليفة بن سلمان) الرجل القامة والهامة الوطنية.. بخطّه الثابت الذي حافظ على مبادئ البحرين وقيمها والذي تعجز الأبجدية عن إيفائه حقه مهما كُتب من كلمات وسطور.. فوداعًا لفارس البحرين الذي ترجَّل تاركًا وطنًا رائعًا يزهو ويفتخر بما حقَّقه من إنجازات بفضل خليفة بن سلمان.    المحلل السياسي للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون

مشاركة :