خَلْطُ الأَوْرَاقِ، وَوَضَرُ التَّعَصُّب المقيت..! 2/2 - د. حسن بن فهد الهويمل

  • 8/18/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لقد مرت الفلسفة الحديثة بموضعة [العقل]. وصدرت دراسات مطولة، ومتعددة المناهج، والمقاصد، لنقد العقل، ودراسته، والتاريخ له، وتصور إمكانياته، ومجالاته. والعقل دخل الحقل المعرفي كموضوع، لا كفاعل، منذ أن ظهر مذهب الاعتزال، وقامت الصراعات بين [النص]، و[العقل]، أيهما الذي يدور في فلك الآخر. وهو قد دخل الحقل الحضاري، عندما اجتاحتنا حضارة الغرب بمادياتها. ونحن اليوم لانتصور وجود هذا عقل الجدلي، بحيث نتوسل به، ليوقف هذه الانهيارات على مختلف المستويات. انهيارات في الأخلاق، وانهيارات في التصورات. إن هناك عقلاً عربياً، وإسلامياً، وعالمياً: متعالياً، أو مغتالاً. ولكل عقل منطلقاته، وأنساقه، وسياقاته. ومن المفروض أن يتناغم العالم في ظل هذه العقول: فلسفية كانت، أو دينية، أو ماشئت من الانتماءات. ولكن الواقع المرير لاتحركه العقول، بل تعصف به العواطف الهوجاء، والأهواء المؤلَّهة، وتخدعه اللعب القذرة، ويضله الخلط المتعمد، ويوهنه التسلط الفئوي. وتؤزه المصالح، التي لا يمكن تحققها، إلا بتفاني العالم العربي، والإسلامي. إن ما يجري على أرض العروبة جنون متوحش، جنون عدواني، لا يمكن القبول به، بل ولا يمكن تصوره. أن تقاتل من يقاتلك، وأن تُعِدَّ لعدوك ما استطعت من قوة، لإرهابه، لا لإفنائه، فذلك حق، ومنطق. ولكن ما نرى، ونسمع بالصوت، والصورة، ليس من الدفاع المشروع، ولا من القتال المعتبر، ولا من الإرهاب المخيف . فكلمة [تُرْهِبُون] في القرآن الكريم، تقابل [قوة الردع]، في العصر الحديث. إن هناك قطيعة إسلامية، وتاريخية. والقطيعة ليست قطيعة معرفية فقط. العالم الإسلامي اليوم تمارس من خلاله مقترفات، لاتمت إلى الإسلام بصلة، لا من قريب، ولا من بعيد. والبُله من أبنائه، يُصَدِّقون هذه المفتريات، ويروجونها على أنها أقوال لا معقب لها. والقطيعة بين الماضي، والحاضر، لاتنطوي على تغيير إلى الأفضل، وليست القطيعة ناتج تصور جديد. إن القطيعة تتجسد من خلال ما يمارس من توحش، لا يطاق، وافتراء على الإسلام، لا يحتمل، وممارسة همجية، لا يمكن تصورها، وإغراق للأمة في المتناقضات، وفي حمامات الدماء. إن الممارسة الموثقة بالصوت وبالصورة، تمثل الانحطاط، والتخلف، والخروج من دائرة الإنسانية. إن الفرقة المفروضة على عالمنا العربي، تعني نفي الذات. والمصير إلى الاضمحلال. ومناعة الأمة، وتماسكها يتمثلان في فهم الحدث من خلال الفعل، والفاعل، والدافع، والهدف. ولو قرئ التاريخ [الأندلسي] بوعي، لأدركت الأمة أنها تمثل بفعلها فضول النهاية، على شاكلة الفردوس المفقود. وإذ عطلت العقول فإن [النص المقدس] بوصفه الملاذ الأخير الذي يُفْترض فيه أن يكون الحكم، والعاصم، أصبح محكوماً بالأهواء، ومعطلاً بالعواطف. إذ كل طائفة ترفع المصحف، وترى أنها تسير على هديه. إن المتابع للعلماء القنواتيين، يقف على ضلالات، تمعن في تزكية النفس. وكل طائفة ترى أنها الفرقة الناجية المنصورة. هذا الرغاء القنواتي يوفر الأجواء الملائمة لمزيد من التوحش. من يلعنون [علياً]، رضي الله عنه، وأرضاه، وحشرنا معه، ويتقربون إلى الله بقتله. ومن يُصَنِّمونَه، ويهمشون من قبله، ويلعنون كبار الصحابة، وأمهات المؤمنين، لايساور هؤلاء، ولا أولئك شك في سلامة معتقدهم. [عبدالرحمن بن ملجم] الخارجي، الذي قتل علياً رضي الله عنه، كان صَوَّاماً، قَوَّاماً، حافظاً للقرآن، مُقْرِئا له، مقرباً من الخليفة، ومن كبار الصحابة، ومع ذلك ختم هذا التبتل بأكبر جريمة عرفها التاريخ. دعونا نقرأ هذه الأحداث لنصطلح، لا لنعيد الكرة مرة، تلو الأخرى. المغررون المُسْتَدرِجون للمغفلين السُّذَّج، هم وحدهم الذين يعرفون حقيقة اللعب القذرة، ولكنهم يكتمونها لمخادعة الْبُلْة، والدفع بهم لتدمير أمتهم، قبل تدمير أنفسهم. لقد كنا متفائلين عندما طُرح مصطلح [المثاقفة]، وكنا نتوقع إجادة الفعل المتثاقف مع الآخر، ولكننا أُصِبنا في الصميم، حين نُزِع الوفاق بين أطياف الفكر الواحد. لقد كانت المعضلة في تجاوز التنافر التاريخي مع الغرب، بل ربما كانت تلك المعضلة هي الشاغل لمفكرينا. وما كنا ندري أن الواقع ينطوي على قطيعة، وتنافر، أنشأه الوهم، والتضليل الإعلامي، وغبش الرؤية، والخلط المتعمد، والإيغال المسرف. لقد عشت هذا الواقع، وتجرعت مراراته، واستفدت من بعض محطاته، ولكنه عجل بضعفي، وبادر بشيخوختي، وأصبحت أردد مع المتنبي: [لَيْتَ الحَوادِثَ بَاعتْنِي الذي أَخَذَتْ... مِنِّي بَحِلْمِيِ الذي أَعْطَتْ وتَجْرِيِبيِ] نعم إن نوائب الدهر سلبت مني ربيع الشباب، وأعطتني شيئاً من الحلم، وقليلاً من التجارب، أو هكذا أزعم. وياليتها اشترت مني ما أعطت، وردت لي شبابي، لأخبره بما فعل الناس من حولي. لعبة قذرة، بل أكثر من لعبة، نراها رأي العين، بل يكاد صانعها يعرب عنها، تقوم على مقولة :- [فرِّق تَسُدْ]. لقد مُزِّقْنا شر ممزق، أرضاً بمشروع [سايكس بيكو]، وانتماءً إلى أحزاب، وطوائف [بعثيين] و [قوميين] و[ناصريين] و[شيعة] و[متصوفة] و[إخوانيين]، و[مستغربين] و[متأسلمين] ولو ذَهَبْتُ أعَدِّد هذه المسميات التي تعرف منها وتنكر، لاحتجت إلى أبحر من المداد. فهل نعود إلى رشدنا، لنعرف عدونا الحقيقي؟. وهل نعود إلى إسلامنا بتسامحه، وشموليته، وعالميته، ومظلته الأوسع؟ وهل نعرف عَدُوَّنا، ومايكيده لنا؟ هذا مايتطلع إليه، ويعرفه عقلاء الأمة المهمشون، لو اتيح لهم الدخول في متن القضايا، وأطلقت عقولهم المصلوبة.

مشاركة :