للمطار فلسفة تتجاوز الحركة الرتيبة الآلية للمغادرين والقادمين، ثمة صور ومعان تفوق هذا الموقع المعد للسفر والمهيأ بمدارج تحط عليها الطائرات وتقلع. المطار صورة بانورامية لشريحة ثرية للمكان والزمان يتجلى فيها الإنسان بكل حالاته ومشاعره، فما بين وصول ورحيل تكمن مشاعر اللقاء والفراق في صورتها الخام التي تظهر بلا رتوش وتبرز بلا تصنع. هو مكان يمثل طبيعة الإنسان في اللحظات الفارقة حين يتمادى الحنين ويطلق خاصية الجذب للأرض فتقاومه رغبة الحياة في انطلاقتها المتوثبة. صفحات الوجوه وتقاسيمها تختلف فهناك من يمتلكه الوجوم ويتشبث به الحزن، وهناك من تنبض وجنتاه بالسعادة والفرح وهناك من يعتريه التوتر والقلق وآخرون يسيطر عليهم الغضب والحنق من أمر ما. وبين فينة وأخرى تنثال الدموع مفعمة بالاحتضان والقبلات في وداع مغادر وتبقى الصورة ذاتها ولكنها مترعة بالفرح في لقاء قادم وبين تلك اللحظة ونقيضها تتشكل فسيفساء الأحاسيس الطبيعية المتناقضة في حياتنا. وللمطارات نكهة ورائحة لا يتذوقها ولا يعرفها إلا المسافرون المتأملون، وهم يميزونها عن نكهة ورائحة أي مكان آخر وهي حين تختلط وتمتزج تنعكس على اولئك القابعين على كراسي الانتظار. ولم يعد المطار بناء أسمنتيا ومدرجا وطائرة غادية ورائحة، المطار أضحى مدينة تختال داخل المدينة، هي مدينة مصغرة مواطنوها لا يلبثون فيها إلا دقائق أو ساعات يعيشون فيها ومن خلالها على حافة البلدان والدول ويتخطون فيها حواجز تنقلهم ضمنياً من مكان إلى آخر بعد إجراءات يكون ختامها (الختم). في المطارات وجوه ومرايا تتعدد فيها الأجناس والألوان واللباس واللغات وتظهر بعض العادات والسلوكيات والتصرفات في صورتها المحضة. وللمطار طبيعة لا نكاد نرى لها شبيها وهي اجتماع العشوائية والنظام ففيه يجتمع النقيضان تلقائياً دون أن يؤثر أحدهما على الآخر. المطار هو (مول) متكامل بسوقه الحرة ووجباته متعددة الجنسيات وقهوته الساخنة وهو فندق بمرافقه المتعددة وأرائكه الوثيرة وأجنحته الفارهة. في المطار وجل من نوع آخر لعدد من المنتظرين الولوج إلى بوابة ذلك الصندوق الحديدي الذي ينتظر ساعة الصفر للإقلاع عبر رحلة بين السماء والأرض فهل ستفضي بهم إلى نهاية سعيدة أم تكون محفوفة بالمنغصات والمخاطر؟!. هناك في مكان قصي من يتصفح روايته ومن يتصفح هاتفه الذكي أو جهازه اللوحي الكل منهمك فهل هو ملل الانتظار؟ أم إشغال الذهن للتفكير بعيداً عن رهبة الطيران؟ أم التخطيط والإعداد لبرنامج السفر؟ أم إنجاز لعمل آتٍ؟ في صالات القدوم والمغادرة كنوز معرفية لثقافات وعادات الشعوب وطبائعها ربما لا تجدها متوافرة وبهذا التنوع الثري في مكان آخر. في بعض المطارات تقام المهرجانات والكرنفالات والمعارض ذلك أنه موقع يمثل منصة إعلامية فائقة الجودة تمتاز بضمان الجمهور وتحقق الرسالة. وللدقيقة في المطارات ثمن غال فعقارب الساعة تتحرك كالسيف القاطع بين السماح بالركوب وبين المنع والاضطرار لشراء تذكرة لرحلة قادمة وهنا يتحول السفر إلى قطعة من العذاب. وللسياحة والابتعاث للدراسة وللعلاج وللمال والأعمال وللرياضة والإعلام وللهجرة والعمل نقطة ابتداء وانطلاق من مطار ونقطة هبوط ووصول في مطار آخر وبينهما تكمن الأحلام المؤجلة. وللقلوب في المطارات نبض خاص فمنه تبدأ ملامح شهر العسل لعروسين، ومنه يبدأ اللقاء أو الفراق لزوجين بعد ظروف حياة قاسية تنتهي إما بالاحتواء والفرح وإما بالفراق والانفصال. الحركة الدائبة في المطار تشبه طبيعة الحياة خارجه ولكنه يجمع الصورة ويختزلها كعينة كثيفة تجمع المتناقضات في موقع واحد هذه المتناقضات التي تشي بقراءات جديدة لهذا المكان الفريد.
مشاركة :