يا أُمِّيْ : في ِرثَاءِ أُمِّيْ؛ مُنِيرَة بِنَتْ أَحْمَدْ الْجَاسِر يَرْحَمُهَا اللهُ

  • 12/21/2020
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

الحمدُ للهِ حمداً لا يبلى, ولا يُحْصى, ولا حدَّ لمنتهاه, لا اعتراض على قدره, ولا رادَّ لقضاه, والصلاة والسلام على سيد الخلق؛ عبده وحبيبه وخليله ومجتباه, وبعد: إلى أوَّل من فتَقَت لساني بذكر الله عز وجل, إلى من رعتِ النشأةَ، وقوَّمتِ المسيرةَ، وحفَّزتِ الهمةَ، وغرست الغرسَ ثم تعاهدته, إلى قوَّامة الليل, وصوَّامة النهار, إلى من تستحق بعد الله تعالى الشكر والمحامد, إلى من ربتني صغيراً, وحملتني كبيرا. إلى (أُمِّي), من لها الفضل بعد الله في وجودي، من ارتبطتُ بها طيلة عمري، عينيَّ بعينيها، كلماتُهَا بأذني, وكلماتي بأذنيها، أنفاسي تختلط بأنفاسها، وإحساسي يعانق إحساسها، إلى أغلى حبٍّ نشأ وترعرع، إلى أعظم حبٍّ كَبُرَ وتفرع. هذي حروفٌ رسمتُها بمدادٍ من أعماق قلبي, ومهرتُها بعد الرضا عن الله جلَّ وعلَا بالعبرات والزفرات قبل الجمل والعبارات؛ إِنَّها حروفٌ تَحْكِي ما لا يُحُكَى مِنْ فَقْد؛ العميدة, والحبيبة, والرفيقة, واللبيبة, والرحيمة, سيدة الحب والرحمة والحنان؛ (أمُّي). إنَّها كلمات محزون ملتاعٌ؛ نابعةٌ من صميم القلب ووجدان الفؤاد, أكتب فيها هذه السطور العاجزة، والقوافي الباكية, عن الوالدة الْمَدْرَسة, و(الأم) الحاضنة، حزِنتُ عليها حِزن يعقوب, وبكيتُ بكاء الثكالى, لكنه بكاءٌ بلا دمعٍ يطفئ جمرات الحزن, ولهيب الفَقْد, وحمأة الوَجْد, وحرارة المُصَاب, بكاءٌ لا يُجدي في إزالة مرارة اللَّوعات, وما سلوتُ سلو الأغمار, ولكني تذكرتُ وعد الله للصابرين المسترجعين؛ فامتثلتُ وسلمتُ وخضعتُ وآمنتُ؛ وصِحتُ قائلًا؛ "إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون"؛ أُردِّدها مئات المرات, أردِّدُها في كل لحظة وثانية, أتزود بها في كل وقت وحين. ولئن كان الرثاء عنواناً للوفاء؛ فمَن أحقُّ من (أُمِّي) رحمها الله؛ بالرثاء. مَاذَا سَأَكْتُبُ عَنْ نَهْرِ الْحَنَانِ وَهْلْ يُطِيقُ حَمْلَ شُعُورِي نَحْوَكِ الْوَرَقَ ؟ بَلْ كَيفَ أُوفِيكَ مَا قَدَّمْتِ مِنْ كَرَمٍ وَمِنْ حَنَانٍ وَمِنْ جُبٍّ لَهُ أَلَقُ أُمَّاهُ قَدْ بَانَ ضَعْفِي وَاسْتَدَارَ فَمِي عَنْ قِبْلِةِ النُّطْقِ وَاسْتَشْرَى بِهِ الْفَرَقُ أُمَّاهُ هَذَا فُؤَادِي جَاءَ مُعْتَذِراً عَنْ عَجْزِهِ يَحْتَوِيهِ الْخَوفُ وَالْقَلَقُ لَكِ الْفُؤَادِ الَّذِي أَنْتِ الضِّياءُ لَهُ لَكِ الْمَشَاعِرُ وَالْأَنْفَاسُ والْحدق ُ (أمِّي) المفخرة؛ الذكرُ زادُها، والنظافةُ عنوانها، تحسبها أميَّة التعليم؛ وقد أوتيت من فصاحة القلبِ وبيانِ الفطرة ما تفوقت به على المتعلمين مجتمعين, أميَّة كانت ولكنَّ رأيها لدى معضلات المرِّ فوق ذوي العلم والمتعلمين. أوتيت من سلامة القلبِ وحبِّ الخير؛ ما تأسر بهما اللب, وتستميل به الجنان, فإذا بك تُسلس لها القياد عن حب وطواعية، دون ملل أو كلل. تسبقها القُبلة الرحيمة قبل النصيحة الموجهة، واليد الحانية قبل الكلمة الآمرة أو الناهية، والدعوة الجامعة قبل وبعد وأثناء الحديث والمسامرة. آنستْ روحُها محبة المؤمنين والمؤمنات، فتعلقوا بعذوبة حديثها، وتعلقت بطيب معشرهم، وألهبت عباراتُها البسيطة لفظاً العميقة معنًى حماس الأولاد والبنات، فأصغوا إلى كلامها يستلهمون منه مسيرة البناء, وتكون زاداً لهم في طريقهم إلى الله تعالى. (أمِّي) الصابرة؛ لم تزدها صوارم البلاء؛ من يتم الطفولة, والأمراض المتتالية، وفقد ابنها ثم والدي؛ إلَّا مضاءً وعزةً وتعلقاً بالحنَّان المنَّان ذو الجلال والإكرام, الذي يتعرف إلى عباده المصطفين الأخيار بصفات القهر والجلال، فيجرهم بسلاسل الضر والمنع إلى ربوة الأنس والرضى، كما يتودد إليهم بصفات العطاء والجمال؛ ليشهدوا منافع لهم, ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من قرة الأعين, وبرد اليقين, وجزيل الإنعام. ما ذكرتُ يوماً في حياتي حتى في أحلك نوائب الدهر أنَّها أَنّت, أوْ جزِعت, أوْ شَكت, أوْ ضجرت؛ بل كانت تردد بقلبٍ ملؤه الشكر والتسليم: "الحمد لله, ما شفنا من ربّنا إلا كل خير". كانت (أمي) أمًّا عظيمة مع أبنائها, وجدة حنونة على أحفادها, مخلصة لله في عبوديتها وديانتها, وفيةً لزوجها في حياته وفي مرضه وبعد موته. كانت (أمي) رحيمةً, تحمل بين أضلعها قلباً كبيراً, لا تعرف إلَّا العفو والمسامحة والابتسام, إذا ما سألها سائل عن صحتها فإنها لا تفتر عن ترداد قول: (الحمد لله, ويا لله حسن الخاتمة, ويا الله من نعمتك إلى رحمتك), لقد كانت تشعر قرب الرحيل, فنراها في أيامها الأخيرة تظهر الحمد والشكر والرضا والفرح والابتسام؛ فتبدو كما لو كانت تنتظر حدثاً سعيداً, أو فرحة كبرى؛ وتتظاهر بالصحة والراحة, مع بداخلها من الوجع والمعاناة والألم ومشقة الحال, ومع ذلك فكلما عرضنا عليها الذهاب للمشفى فإنها تعتذر أشد الاعتذار, مع ما كانت تعيشه من رغبة في الآخرة وإعراض تامٍّ عن الدنيا. كانت (أُمِّيْ) طيبة النفس, ظريفة المعشر, ترضى بالقليل, ويغمرها الكثير, تأكلُ ما وجدت, ولا تسأل عمَّا فقدت, كانت شاكرةً لمن أهداها وأعطاها, غافلة عمن منع أو أعطى قليلاً وأكدى, كانت عفةَ اللسان, طاهرةَ الجنان, طويلةَ الباع بالإحسان, أوجدت بينها وبين القلوب نسباً؛ حيث جعلت بينها وبين ربِّها سبباً, فأحبها حباً صادقاً كلُّ من لاقاها, بل كل من سمع بها واستمع إلى خبرها, كانت لا تحسد الأخيار, ولا تعيب الأشرار, قناعتُها طهرت قلبها من الحسد, وحرصُها على مداراة الناس عفَّ لسانها عن الفدد, رِضِاها بقدر الله منعها من أن تسخط على أحد, لا تذكر أحداً بسوء, كانت تتألف الصغير والكبير, وتفرح بالزوار, صدرها أوسع من دارها, ترى الفضل لمن قدِم عليها وزارها, اجتمع على حبِّها؛ الأبناء والبنات, والأحفاد والأسباط, وزوجات الأبناء وأزواج البنات, وسائر الأقارب والجيران والمعارف. كانت هي دوحتنا الغناء, وخيمتنا الوارفة الظلال, يجتمع حولها الأولاد والأحفاد والأسباط في كل وقت وحين بلا حرج ولا ميعاد, وهي مع هذه الاجتماعات يملؤها السرور؛ حيث التئام الشمل والبر وصلة الأرحام. كان حبُّها هو الحب الباقي؛ فهو حب يعيش في إقبال الحظ وإدباره, وفي تنكر العالم وتجهم وجه الدهر. أولادها هم الضياء لناظريها, والأكف لساعديها, هم كبدها, وثمار قلبها, وعماد ظهرها, هم بالنسبة لها؛ كالحلقة المفرغة؛ لا تدري أين طرفاها. إني مدين لله تعالى, ثم لأُمي ولأَبي؛ بكل ما وصلت إليه من توفيق في أمور الدنيا والدين, ألا من أراد بركة الرزق فليسرع إلى الإنفاق على والديه, ومن أراد الإيسار فليوسر على أمه وأبيه, فهنيئا لمن تكتحل عيناه برؤية والديه صباحاً ومساءً, وهنيئاً لمن احتاج له أبواه أو أحدهما, وهنيئاً لمن وفقه الله لبرهما والإحسان إليهما. ولا نامت عين من عَقَّ والديه ولم يبرهما. ما أعظمك يا (أمّي) من أمٍّ تُشرق في سماء ابتسامتها العذبة نجوم المسرات والآمال, وتَنهد أمام صلابة شخصيتها جبال الهموم والأحزان, كنتِ وما زلتِ محفوراً محبتُكِ في قلوب الأبناء والأحفاد والجيران؛ لكل واحد منهم معك شأن عجيب, كنتِ متسامحةً مع الحساد, ورزقكِ الله روحاً تسمو فوق كل الضغائن. أنتِ خريجة مدرسة الفطرة، وينبوع الرحمة والحنان، ومعدن الشهامة والكرم, زانتك وزادتك الصحبة والجماعة بهاء ونقاء وحظوة في قلوب المؤمنين والمؤمنات, وما جنة الأمومة إلَّا صحبة حانية راقية تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؛ جماعة أبناء بررة لا ينقطع العمل والأجر بدوام نسلهم، فلمثل هذا اليوم فليعمل العاملون. هِيَ النُّبْلُ وَالْإِحْسَانُ وَالزُّهْدُ وَالطُّهْرُ هِيَ الْجُودُ فِي أَعْلَى مَرَاتِبَ بَذْلِهِ هِيَ الْمُكْرَمَاتُ الْبِيضُ وَالشِّيَمُ الْغُرُّ أحنّ إلى: خبز (أمي), وقهوة (أمي), ولمسة (أمي), وضمة (أمي), وقبلة (أمي), أحتاج إلى حكمة (أمي) ورأيها ودعواتها, أتذكر فرحتها بزيارتي لها, وبهجتها بقدومي إلى مجلسها وبيتها, وإلحاحها عليَّ في الأكل والقهوة والشراب, تخصني من فرحتها بقدومي بالمبيت والإقامة في غرفتها, والإقامة في أخص أماكنها, وتأمر الخادمة بتطييب المنام وترتيب المكان, أتذكر يوم كانت بلا كلل ولا ملل ترجوني أن آكل من هذا كثيراً, وأن أشرب من ذاك كأساً مريئاً, وأن أزيد من هذا قليلاً, وأن لا أبقي من ذاك فتيلاً. كانت تناولني الطعام, أو تطلب مني الأكل منه؛ وهي ترقبني طوال وقتها تملأ عينيها؛ فرحة كما لو كانت هي الآكل الشارب. كانت تحوطني بالعناية والإهتمام, تخاف عليَّ من الحرِّ, وتخشي عليَّ من القرِّ, كم قضيتُ من الأيام أياماً ماتعة بقربها, أنعم فيها بأعذب الحنان, حيث كانت (أمي) تخترع فيها من جدب المعيشة خِصباً خصيباً, ومن سموم الصيف نسيماً عليلاً, ومن زمهرير الشتاء دِفئاً حريراً, وكل ذلك ينساب كالرقراق بين الحصى من نفس رضية نقية بطرائق عجيبة تسلب العقول, لا تعرفها ولا تتقنها إلا قلوب الأمهات, فقلوب الأمهات لا تشيخ, ولا تعجز, ولا تهرم, ولا تشيب, ولا تتوانى, ولا تضعف, فهنَّ أرق الناس قلوباً, وأعظمهم رحمة, وأصدقهم لهجة ومودة, لقد فقدتُ (أمُّي)؛ فقدتُ ذكرياتٍ ضخمة, وتاريخ عتيق, فقدتُ الحضن الحاني؛ والصدر الحنون, الذي فيه وحده "لين" الحياة؛ لأنَّ فيه قلبها وروحها, فمن له أمٌّ كأمي؛ طيب الله ثراها, ورفع منازلها في أعالي الجنات, وفرج عنها كربات يوم القيامة. إني أحنُّ إلى كلِّ تفاصيلها, ولكن الله غالبٌ على أمره, ونحن له مسلمون. مَنْ لِي إِذَا مَاجِئْتُ أَبْغِي رَاحَةً وَلَطَافَةً إِنْ ضُيِّقَ الصَّدْرُ مَنْ ذَا يُوَاسِينِي إِذَا مَا نَوَّخَتْ فِي سَاحَتِي الْآلَامُ والْعُسْرُ قَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) عَونِي دَائِماً وَبِكِ الْعَزَاءُ إِذَا اعْتَدَى الشَّرُّ قَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) مَصْدَرَ فَرْحَتِي أَبَدًا يُرَفْرِفُ حَولَكِ الْبِشْرُ قَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) نَجْمًا هَادِياً وَلَأنْتِ فِي ظُلُمَاتِي الْبَدْرُ قَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) ظِلًّا وَارِفًا آوِي إِلَيهِ إِذَا قَسَا الْحَرُّ قَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) كِنًّا دَافِئًا فِيكِ الْآمَانُ إِذا بَدَا الْقَرُّ قَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) نَبْعًا صَافِيًا يَشْفِي الْغَلِيلَ وَإِنَّكِ النَّهْرُ آوي إِلَى بُسْتَانِ عَطْفِكِ رَائِقًا مِنْ حَولِي الْأَطْيَارُ وَالزَّهْرُ يوم ماتت (أُمِّي) مات الزمانُ والمكانُ والحنانُ, ومات التاريخ والجغرافيا, ونُزِعت من الأشياء المعاني فصارت كلها سواء, ونزعت من الدنيا الرحمة؛ فصارت كلها بلاء. وما يعزينا ويسلينا ويجبر قلوبنا إلَّا مصيبتُنا في سيد الخلق وحبيب الربِّ جلَّ وعلَا؛ محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ أحداً لن يصاب بمصيبةٍ أشد من موته وفقده بأبي هو وأمي؛ صلى الله عليه وسلم. ولولا أنَّ القلوب توقن باجتماع ثان بفضل الله ورحمته؛ لتفطرت المرائر لفراق الوالدين والأمهات والمحبين. وَمَهْمَا تَكُنْ مِنْ ضِحْكَةٍ بَعْدَ فَقْدِهَا فَإِنِّي وَإِنِّي أَظْهَرْتُهَا لَحَزِينُ سَلَامٌ عَلَى أَيَّامِنَا قَبْلَ مَوتِهَا إِذِ الدَارُ دَارٌ والسُّرُورُ فُنُونُ إن كانت الأمُّ حبّاً فـ(ـأمِّي) أجملُه, وإن كانت عطاءً فـ(ـأمِّي) أوسعُه, كانت الثوب الذي ألبسُه فيمنحُني الحياة بكل معانيها .عطاؤها لا يعرف قانوناً, ولا يلتزم نظاماً, ولا يحدُّه وقت, ولا يركن إلى منطق إلَّا منطق الحب العارم الممزوج بالرحمة والحنان, عطائها عطاءٌ يوقف إعمال العقل وأسبابه, فهي لا تعرف إلَّا أن تكون معي دائماً. كانت (أمِّي)؛ تعطي بلا حساب، كانت تسهر وتنتظر وتبكي وتفرح بلا ثمن. (أمِّي)؛ كانت صفوة الحبِّ والعطاءِ والأمن والأمان والرحمة والاحتواء, وأنا عند (أمِّي) دائماً على صواب, وإذا رضِيتُ فهذا عندها غايةُ المنى, فكنتُ إذا غضبتُ أرضتني, وإذا سألتُ أعطتني, وإذا سكتُّ ابتدرتني. (يا أمِّي)؛ تمنيتُ أنظر إليك؛ لأرى النور الباسم بإشراق نفسك, تمنيتُ تحليقاً أحلق في السماء بروعة إقبالك واستقبالك, تمنيتُ أقبل يديك ورأسك وقدميك, يا أمِّي؛ يا رائحة الشمس, وعفو الظل, وبر النور, يا باقة الحب, يا رِواء الروح, يا أبهى عطاء الرب_جلَّ جلالهَ وتقدَّس في علاه (أمَّاه)؛ تمنيتُ نظرةً في وجهك؛ لأرى عقوقي وصبرك, وتمنيتُ نظرةً في عينيك؛ لأرى جحودي ونكراني وعظيم حلمك, تمنيتُ ألمس يديك لأرى دفء عطائك وروعة وصالك, ماذا أقدم لك اليوم وأنت في الثرى؛ لأقر بتقصيري وعقوقي؟ وماذا اقرأ في كتابي؛ غير جهلي ورحمتك؟ وماذا أرى في مسيري؛ إلَّا أسباباً من عطائك وأسباباً من جحودي؟ (أمِّي)؛ يا كلمة كانت تعطر أنفاسي, وتملأ خاطري نوراً وأمناً, (أمِّي)؛ يا عظمةً جمعت من كل شيء جماله, ومن كل معنى جلاله, ومن كل وصل وصاله, إنك الرحمة بل أنت أعلى مراتب الرَّحِم. فيا إلهي! أيُّ صغير بل أيُّ كبيرٍ على الأرض يجد كفايته من الروح إلَّا في روح الأم الحنون؟. أَنَا النَّدْمَانُ مِنْ رَاْسِي إِلَى قَدَمِي أَنَا نَدَمِي: عَلَى أَنِّي تَرَكْتُكِ لَحْظَةً فِي الْعُمْرِ مَا كُنْتِ مَعِي فِيهَا فَعُودِي لِي وَأُقْسِمُ لَكْ بَأَنِّي كُلَّ أَيَّامِي سَأقْضِيهَا لِأَجْلِسَ عِنْدَ أَقْدَامِكْ أُقَبِّلُهَا وَأَحْمِلُهَا عَلَى رَأْسِي أُهَدْهِدُهَا أُغَطِّيهَا فَقَدْ خَدَعَتْنِي أَيَّامِي وَهَا أَنَذَا وَحِيدًا ضَائِعًا مُهْمَلْ فَبَعْدِكِ يَا أَحَبَّ النَّاسْ بِهّذَا الْقَلْبِ مِنْ بَعْدِكْ أَنَا مَاذَا بِهِ أَفْعَلْ؟ دَخَلْتُ الْأَن حُجْرَتَكِ وَجَدْتُ النُّورَ قَدْ غَادَرْ وَطِيْبُكِ مِنْ هُنَا سَافَرْ سَأَلْتُ النُّوْرَ عَنْ شَيءٍ هُنَا تَرَكَهْ لِمَاذَا الْبَيْتُ مَا عَادَ فَلَا صَوْتٌ وَلَا حَرَكَهْ وَلَا خَيْرٌ وَلَا بَرَكَهْ هُنَا مَا زَالَ مَقْعَدُكِ وَصَوتٌ مِنْ كَلَامِ الْأَمْسْ جَمِيْعًا كُنَّا نَنْتَظِرُكْ فَهُلِّيْ مِثْلَمَا أَنْتِ فَقَدْ كُنْتِ هُنَا بِالْأَمْسْ وَبَيْنَ الْيَومِ والْأَمْسِ تَغَيَّرْنَا فَلَا شَكْلٌ وَلَا لَونٌ وَلَا طَعْمٌ وَلَا مَعْنَى وَلَا أَنْتِ هُنَا مَعَنَا لِأَوَّلِ مَرَّةِ فِيْ الْعُمْرِ يَا (أُمِّي) نَذُوْق الْيُتْمَ أَجْمَعُنَا نَغْمِسُ خُبْزَنَا الْيَابِسْ بِأَدْمُعِنَا هُنَا بَخَاخَةُ الرَّبْوِ وَأَدْوِيَتُكْ وَطَرْحَتُكِ وَسَجَادَةْ وَمِذْيَاعٌ صَغِيْرٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنُ كَالْعَادَةْ فَأيْنَ عَشاؤُنَا أَيْنَ وَأَيْنَ جَمِيْعُ مَنْ فِيْ الْبَيْتْ يَلْتَفُّوْنَ مِنْ حَوْلِكْ فَهَذَ مَقْعَدُكْ خَالِيْ أُحَدِّقُ فِيْهِ سَرِيْرُكِ هَاهُنَا خَالِيْ وَسَادَتُكِ وَجِلْبَابِكْ وَأَشْيَائِكْ وَبَسْمَتُكِ .. دُعَابَتُكْ وَيَقْتُلُنِيْ سُؤَالٌ دَارَ فِيْ بَالِيْ هُنَا صَوْتُكْ وَأَصْرَخُ دَائِمًا وَحْدِيْ بِأَعْلَى صَوْتْ رَجَوْتُكِ أَنْ تُجِيْبِيْنِيْ وَنَادَيْتُ أَيَا أُمِّيْ أَيَا أُمِّيْ وَأَنْ تَبْقَيْ هُنَا مَعَنَا بِلَا جَدْوَى تعجز اللغات عن صناعة كلمة تثير من الحب والحنان والرحمة والعطاء والحنين ما تثيره كلمة (أمّ). إنَّ معنى (الأمّ)؛ لجلاله وهيبته وجماله وروعته جمعه القرآن في "تعبير" بليغ ووصف بديع, يحمل في طيَّاته معاني البرَّ والفضل والوفاء, ثمَّ إنَّ حقيقة هذا "التعبير" القرآني المهيب أنه توجيه ربانيّ لا يحتمل إلَّا الإذعان والإجابة والتسليم, حيث جاءت الآية الكريمة بصيغة الأمر والنهي؛ أمرٌ بالإحسان إلى الوالدين, ثم نهيٌ عن أبسط أنواع العقوق وأقلِّها؛ وإن كان بلفظ من حرفين: (أُفٍّ), وما كان أمرُ الله للإنسان بخفض جناح الذل للوالدين من الرحمة إلَّا بياناً من الله بأنَّ عطاء (الأمِّ والأبِ) لا ينبغي أمام ضخامته وعظمته وجلاله إلَّا الخضوع لهما بأعلى مراتب الرحمة, وهي؛ "الذل", ليكون الولد وهو في أوج قوته وفتوته أمام والديه في كبرهما وضعفهما متواضعاً ذليلًا, محقِّقاً بهذا الذلِّ والخضوع أعلى مراتب الاعتراف بالفضل والعرفان والإحسان. (أمِّي)؛ لقد كنتِ مبدأ وحي ٍ رحيم, وكنتِ: الروض, والسهل, والرابية, كنتِ يا (أمِّي): هواء تخلل في عمق كونٍ؛ لينبت ألوانه الزاهية, ولينسج لحن حياة النعيم على سترة الروح والعافية, كنتِ (يا بهجة الفؤاد): تشبهين حضن السماء ارتواء البوادي هطولاً من اللهفة الحانية, (أنتِ) والله: دثارٌ دفيء بليلٍ الصقيع, و(أنتِ وبالله) عذب النسيمات في القاسية, قسماً بربي الرحيم: إن كان للكون مثقال حبٍّ لكان لـكِ يـ(ـأمِّي) الكفة الباقية. أُمِّي تَسِيْرُ بِجَاْنِبِيْ - في رحلتي - و تُنِيْرُ لِيْ طُرُقاً بِكُلِّ مَسَاْرِ وَتَبُثُّ - فِيْ رَوْعِيْ - ثَبَاْتاً مُطْلَقاً بِعَدَاْلَةِ اللهِ؛ الرَّحِيْمِ؛ الْبَاْرِيْ وَتُلَطِّفُ الْحُزنَ الْمُخَيِّمَ بَعْدَ مَاْ سَاْلَتْ دُمُوْعُ الْقَوْمِ كَالتَّيَّاْرِ وَتُنِيْرُ لِيْ دَرْباً؛ وَلَيْلاً مُظْلِماً عِنْدَ اضْطِرَاْبِيْ، وَاضْطِرَاْبِ قَرَاْرِيْ وَالأُمُّ - فِي الْلَيْلِ الْبَهِيْمِ - مَنَاْرَةٌ تَحْنُوْ عَلَى الْوَلَدِ الْغَرِيْبِ السَّاْرِيْ وَ الأُمُّ - إِنْ بَخِلَ الْجَمِيْعُ -كَرِيْمَةٌ وَعَطَاْؤُهَاْ مُتَوَاْصِلُ الأَطْوَاْرِ أنْوَاْرُ أُمِّيْ لاْ تُحَدُّ - كَحُبِّهَاْ وَ حَنَاْنِهَا - بِمَنَاْعَةِ الأَسْوَاْرِ فَالأُمُّ - فِيْ لَيْلِ الْمَكَاْرِهِ – شُعْلَةٌ وَ الأُمُّ يَنْبُوْعٌ لِكُلِّ فَخَاْرِ لَكِنَّ مَوْتَ الأُمِّ ؛ يُعْقِبُ - فِي الْحَشَاْ والْقَلْبِ - شُعْلَةَ مَاْرِجٍ مِنْ نَاْرِ أنعم الله علينا ببيت جديد, ومنزل سعيد؛ قمنا بتصميمه منذ كان فكرة وحديثَ النفوس بحيث يحوى قسماً فاخراً لـ(ـلوالدين) يليق بعظمة حديث سورة (الإسراء) عن مقام البر والصلة والإحسان. كنَّا أنا وزوجتي وأولادي ندعوها في كلِّ وقت لزيارتنا في بيتنا في المدينة النبوية؛ لتحل فيه البركة؛ وينتشر فيه النور, ويعمه الفرح والسرور, وتغمره البهجة والحبور, وكانت رحمها الله تعتذر دائماً بعجزها, ومرضها, ودنو أجلها, وحاجتها إلى قرب بناتها وأولادها وأحفادها وأبناء أحفادها؛ حيث إنهم يقيمون قريباً منها في مدينة الرياض؛ يتناوبون على شرف خدمتها, ويتنافسون على بركة الدنو منها, وتحقيق مرادها, ولو كان المراد من أحاديث القلب وخطرات الجنان, فهم في سبيل رضاها "في شغل فاكهون". وفجأة وبلا مقدمات؛ أبْدتْ (أمي الحنون) رغبتها في السفر إلى المدينة المنورة؛ وهي رغبةٌ كنَّا نتمناها في كل وقت وحين, بل إنها كانت عندنا غاية المنى, ومنى الفؤاد, وكانت رغبتُها المفاجئة بعد زمن طويل من الرفض والاعتذار في السفر إلى المدينة محل دهشة الناس أجمعين؛ الأولاد, والبنات, والأخوات, والجيران, والمحبين. كانت ملِحَّة في تحقيق رغبتها, تستعجل ذلك, وتسأل عنه: متى المسير إلى مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم؟, حدثتني أختي (أم عاصم) بهذه الرغبة, فكبَّرتُ وهللَّتُ وحمدتُ الله على تحقيق المراد, ثم سافرتُ إليها في الرياض, وقلتُ لها؛ بلغني ما تفضلتِ وأنعمتِ به من زيارتنا في المدينة؟ قالت نعم؛ فقبلتُ قدميها؛ ثم سجدتُ حمداً لله رب العالمين, وقلتُ لها؛ أيّ شرف حلَّ بنا, وأيُّ فخر منحتيه لنا, وأيُّ سعادة تغمرنا, وأيّ بيتٍ أسعد من بيتنا, وعمَّت الفرحة بهذا الخبر السعيد أرجاء الأسرة والبيت والساكنين. أَنْتِ الْحَنَانُ وَأَيُّ تَحْنَانٍ سِوَاهُ فَإِنَّهُ فَيضُ حَنَانِكْ أَنْتِ النَّقَاءُ إِذَا تَكَدَّرَتِ الْقُلُوبُ فَلَا نَقَاءَ إِلَّا نَقَائِكْ أَنْتِ الضِيَاءُ إِذَا ادْلَهَمَّ الْكَرْبُ أَشْرَقَ حَولَنَا نُورُ ابْتِهَالِكْ ودَّعَتْ (أمّي) الرياض وأهلها بالدموع, ونقلتْ جميع أشيائها وما تملك من المتاع القليل إلى المدينة المنورة, وأوصت بناتها بتوزيع ما تبقى من الأشياء, وسلَّمت مفاتيح غرفتها إلى أخي الأكبر, وهي تضمُّ أخي الذي هو أبي بعد أبي إلى صدرها وتبكي, غادرت (أمي) الرياض بالدموع, ولكنها أقبلت على المدينة بالبهجة والسرور, فكانت الفرحة إذا ذُكِرت المدينة وبعد وصولها إلى المدينة تغمرها, والابتسامة لا تغادرها, وكأني بها ابتسامة التمام والرضى عن الله تعالى, وكأنها تنظر إلى بشارة تنتظرها, أو دعوة لها لتلحق بالرفيق الأعلى, و"الرفيق الأعلى" عند الربِّ الرحيم خير وأبقى, كانت تقول للجميع: أنا ذاهبة إلى المدينة المنورة؛ للقرار, والاستقرار, والموت فيها بإذن الله؛ في سابقة لم تفعلها من قبل على مرِّ السنين. وصلتْ (أمي) إلى المدينة النبوية حيث سعدنا باستقبالها في المطار, ثم تشرفنا بها في بيتنا حيث كان الجميع في استقبالها الفخم الحافل, وكان وصولها إلى البيت وقت آذن الفجر؛ وبعد أن دخلنا البيت وقبل صلاة الفجر نادتني وهي لا زالت لم تنزل من عربيتها؛ فقالت لي وهي تلتفتُ لئلا يسمعها أحد: يا عبدالله: (إن تدهورت صحتي فأنا داخلة على الله ثم عليك لا تخرجوني من المدينة)؛ بكى قلبي من كلامها بكاء الأطفال في المهد, وتلعثم لساني؛ لمفاجأة مقالتها, وفخامة طلبها. فقلت لها: أبشري؛ بإذن الله. ثمَّ إنها بعد يوم واحد من وصولها للمدينة أوصت أُختى (أم عاصم) بوصايا المودع, ووصايا الوداع, وكأنها على موعد مع الوداع. مكثنا معها عشرين يوماً منذ قدمت إلى المدينة. أياماً سعيدة كنا نصبِّح عليها ونمسيها, قضينا هذه الأيام العشرين معها وبصحبتها ونحن غير مصدقين أنها في بيتنا, لقد كنَّا في الحقيقة في نعيم الجنة وجنة النعيم. وكأني بـ(ـأمِّي) بمفاجأة رحلتها المدنية ورغبتها الفاخرة في القرار والجوار والموت والاستقرار تسعى بتوفيق الله لها في تحقيق حديث الاستطاعة؛ (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل), كما كانت تسعى بمفهوم فعلها إلى جوار الخاتمة وخاتمة الجوار؛ حيث صارت في البقيع جارة لأبي أولادها وشريك دربها؛ والدي, والذي سبقها إلى الدار الآخرة؛ تغمدهما الله بواسع مغفرته ورضوانه. في ذلك المساء ولم نكن نعلم أنه المجلس الأخير؛ جلسنا مع (أمي) حيث شربنا القهوة سوياً؛ ومكثنا نتسامر ونتجاذب أطراف الحديث؛ ثم صلينا العشاء, فقالتْ لي؛ لعلك تأخذني إلى غرفتي وكنا جلوسٌ في السطوح؛ حيث الشمس الدافئة, والهواء العليل, فحركتُ عربيتها وتوجهنا إلى المصعد, حيث نزل بنا إلى حيث يوجد منامها وجناحها, ثم تناولنا طعام العشاء, _ولم نكن نعلم أنه العشاء الأخير, حيث تشرف بحضرتها أولادي وبناتي وزوجتي, وتحدثنا معها بما شاء الله حديث المحبين, ثمَّ فرغنا بعد ذلك, وغادرنا غرفتها تملؤنا البهجة ويغمرنا السرور, وودعناها على أن نلتقي غداً وقد كان في الحقيقة هو الوداع الأخير, أَخَذَتْ في الاستعداد للنوم؛ ثمَّ استيقظت في آخر الليل؛ وتوضأتْ وصلَّتْ ما شاء الله لها من التهجد والصلاة, ثمَّ صلَّتْ سنة الفجر وفريضتها؛ في وقتها, ثمَّ طلبت من الممرضة على غير العادة أن تمكنها من الاغتسال والتطيب؛ ثمَّ كعادتها خلدت إلى الراحة؛ ثم استيقظتْ على عادتها تريد الطهارة والوضوء وصلاة الضحى؛ وكنتُ قد عزمتُ من الليل على الذهاب في الصباح للعمل مبكراً؛ فصليتُ الفجر في المسجد النبوي؛ ورجعتُ إلى البيتِ؛ حيث أصابني شعور بوجوب لزوم البيت وعدم الذهاب للعمل في يوم وفاتها؛ حتى أطمئن أكثر على صحتها, ولم يأتي في خلدي داعي الموت أبداً؛ وإذا بالساعة الثامنة والثلث يأتيني اتصال من الممرضة وأنا في غرفتي فَطِرتُ ماشياً لا أرى أمامي إلَّا (أمِّي)؛ حيث وجدتها مستلقية على الفراش؛ ناديتها؛ يا (أمِّي)؛ فأجابتني؛ وسألتني عن الوقت, وقالتْ: هل نحن في وقت صلاة المغرب؛ قلتُ لها؛ بل نحن في وقت الضحى, أخذنا في إعدادها ومساعدتها في الطهارة والتطهر, وهي تدرك وتعي وتعرف ما تقول؛ وبعد طهارتها, أخذت تتكلم معنا قليلاً, ثم اشتد عليها النفس؛ فلا تكاد تتنفس إلَّا بصعوبة؛ حينها أيقنتُ بأنَّهُ الموتُ وسكراتُهُ؛ فقلتُ لها: قولي (لا إله إلَّا الله) فأخذت تردد معي كلمة التوحيد؛ حتى انقطع نفسها, وبينما نحن كذلك حضر الأطباء والممرضون, وقاموا بما يستطيعون من أسباب النجاة والإسعاف والدواء؛ ولكن الله غالبٌ على أمره, وقدره نافذ, وقضاؤه خير في كل وقت وحين. لقد ماتت (أمِّي), حينها أكببت على أمِّي الحبيبة أمطر رأسها وجبينها ويديها ورجليها قُبَلًا حَرَّى؛ إنها قُبل الوداع, وإنا لله وإنا إليه راجعون, رجوع من سلَّم لأمره, واستسلم لحكمه, ورضي بقضائه وقدره, فأحسن الله عزائنا, وجبر مصابنا, فأي حزنٍ حزنُ فقدك يا أمِّي، وأي مصابٍ جلل مصابك يا (أمِّي). نَزَلَ الأَسَىْ فَوْقَ الأَسَىْ بِدِيَاْرِيْ وَامْتَدَّ كَالطُّوْفَاْنِ؛ كَالإعْصَاْرِ فَجَدَاْوِلُ الدَّمْعِ الْغَزِيْرِ كَثِيْرَةٌ تَجْرِيْ عَلَى الْوَجنَاْتِ كَالأَنْهَاْرِ وَفَقَدْتُ مَنْ فَجَعَ الأَحِبَّةَ مَوْتُهَاْ وَ الْمَوْتُ حَقٌّ؛ مَاْ بِهِ مِنْ عَاْرِ لَكِنَّهُ مُرٌّ؛ يُفَرِّقُ شَمْلَنَاْ بِصَرَاْمَةٍ ؛ كَالصَّاْرِمِ الْبَتَّاْرِ فَصَرَخْتُ: وَاْ أُمَّاْهُ !! وَارْتَدَّ الصَّدَىْ مُتُفَاْوِتَ الإِخْفَاْءِ؛ وَ الإِظْهَاْرِ وبَكَيْتُ مَجْرُوْحَ الْفُؤَآدِ؛ مُنَاْجِياً أُمِّيْ ، بِدَمْعٍ نَاْزِفٍ مِدْرَاْرِ لاَ أَرْتَجِيْ أُماًّ سِواكِ؛ وَ لَيْسَ لِيْ إِلآكِ مِنْ عَوْنٍ؛ وَ مِنْ أَنْصَاْرِ و أَعَدْتُ : وا أُمَّاْهُ !! دُوْنَ إِجَاْبَةٍ تُغْنِيْ عَنِ الأَبْرَاْرِ، وَ الأَشْرَاْرِ وكم للهِ من لطف خفيّ, ولقد رأينا لطفه جلَّ وعلَا جليًّا في ما قدره وقضاه؛ ظهر هذا اللطف؛ في ما وفقها إليه؛ فهي تساق إليه سوقاً من الموت في المدينة النبوية, وما وفقها إليه من النطق بالشهادة وتردادها حتى انقطاع الأنفاس, ثم ما كان من تلك الميتة السهلة المستريحة استجابة لدعوتها التي لا تنفك من الدعاء بها في كل لحظة وحين: (اللهم من نعمتك لرحمتك)؛ فلم تتكلف ولم تكلف أحداً, ثم إنَّ موتها جاء بعد أدائها للسنن والفرائض؛ سنة الفجر وفريضتها, وجاء موتها وهي تستعد للوضوء ولصلاة الضحى, ثم لطفٌ آخر؛ وهو ما قدره الله لي من المكوث في البيت وعدم الخروج العمل؛ ليكون ما كان من حضور لحظات الاحتضار, والعناية والرعاية والتلقين, حتى آتاها اليقين. وَكُنْتُ إِذَا مَا ضَاقَ صَدْرِي بِحَادِثٍ فَزِعْتُ بَنَجْوَاهُ إِلَى صَدْرِهَا الرَّحْبُ فَيَذْهَبُ عَنِّي هَمُّ نَفْسِي كَأَنَّهَا شَفَتْ غُلَّةَ الظَمْآنِ بِالْبَارِدِ الْعَذْبُ فَمنْ سَيَلُمُّ الشَّمْلَ فِي كُلِّ رُوحِهِ وَمَنْ سَيَرَى فِي حُلْوِ بَسْمَتِهِ الْفَجْرُ وَمَنْ سَيُنَاجِي رَبَّهُ فِي كُلِّ لَيلةٍ وَيَدْعُو لَنَا كَي لَا يَحِيقَ بِنَا شَرُّ والله سبحانه وتعالى إذا أحبَّ عبداً وفقه للطاعات, وجعله مشغول بذكره في الليل والنهار, حتى إذا ما اقترب أجل العبد، عَسَّلَهُ؛ فوفّقه إلى مزيد من أعمال الخير وأنواع العبادات, وساقه إلى التّوبة عن المعاصي والآثام، ليكون موته على أحسن ختم, وأجمل حالٍ. وما كان من (أمِّي) إنما هو من قبيل هذا التوفيق, وسياق في هذا السياق, وتوفيق فيما نراه إلى حسن الختام. لقد كانت (خاتمتُها) مليئة بالعبر والتفكر والعظات؛ حيث استجاب الله دعوتها: (اللهم من نعمتك إلى رحمتك), فتساق سوقاً لتموت في المدينة المنورة, ثم دفنها في بقيع الغرقد؛ حيث تبذل الدعوات لأهل البقيع من كل المسلمين في كل وقت وحين, ثم إنَّ موتها قد وقع وهي متلبسة بما يرضي الله, فقد كانت وفاتها؛ بعد أداء فريضة من فرائض الله قيام الليل وصلاة الفجر وسنتها وبينما هي تريد أن تتطهر لتؤدي سنة الضحى, ولقد كان آخر حديثها قبل الشهادة أنها تسأل عن الصلاة, وتريد الوضوء والتطهر, ثم بعد ذلك ما وفقها إليه من الثبات وترديد كلمة التوحيد إلى آخر نفس من أنفاسها, وما حصل بعد ذلك من شهود جنازتها والصلاة عليها من أهل القرآن وحفَّاظه والأئمة والصالحين, مع دعاء الناس ومحبتهم واستغفارهم بما لم يخطر لنا على بال. لقد كان من أعظم أسباب ما أكرمها الله به من التوفيق لحسن الخاتمة والراحة عند الموت؛ مسارعتها في أعمال الطاعة ونوافل العبادة؛ مسارعة لا تقبل التأجيل, ولا التسويف, ولا الأعذار, ولا الاعتذار؛ فأمَّا "صلاة الفريضة" فإنها رحمها الله مع الفريضة في رباط بعد رباط؛ فلم يأت عليها فريضة من الفرائض إلَّا وهي مستعدة لها؛ بالطهور وحسن المظهر والانصراف عن الشواغل وصفاء البال, كانت تستغرق في صلاتها الوقت الطويل, كأنما تتمثل قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ (أرحنا بها يا بلال). وأمَّا محافظتها على "السنن الرواتب" فشأن عجيب؛ حتى كادت تلك السنن الرواتب عندها أن تشبه الفرائض؛ في المحافظة والمعاهدة والتأدية والاستحضار. وأمَّا محافظتها على "قيام الليل" فكانت مضرب المثل والإستعبار؛ حيث كانت تقوم الليل ما شاء الله أن تقوم؛ محافظة على ذلك في السفر والحضر, في الصحة والمرض, في أحلك الظروف وأشد الأحوال, من أحوال الحرِّ والبرد, وتقدم السن والمرض التي تجعل ذهابها للوضوء وتوابعه من أكلف التكليف, وأشق الأعمال, حتى إنها تكاد تبكي من شدة الآلام, وكلفة الاستعداد, ومع ذلك فـ"قيام الليل" بالنسبة لها؛ زاد المسير, وبهجة الفؤاد, وعوناً على الوصول إلى الموصول. وكانت تحافظ على "صيام النوافل" محافظة يعجز عنها الفتية الأقوياء؛ وظلت محافظة على هذا الصيام بلا انقطاع حتى أتاها "اليقين". فما عرفناها منذ نشأنا في كنفها, وارتقينا على كتفها؛ إلا صوَّامة؛ لجميع النوافل والمواسم؛ تحافظ على صيام شهر الله المحرم, وشهر شعبان؛ كاملين لا ينخرم منهما شيئا, أمَّا صوم أيام البيض, والإثنين والخميس, والستِّ من شوال, وعشر ذي الحجة, فقد كادت أن تشبه شهر الصيام؛ من شدة حرصها, ومحافظتها عليها, فلم تترك صيام ذلك كله لا في حال الصحة ولا حال المرض . ومن أسباب ما أكرمها الله به من التوفيق لحسن الخاتمة؛ سلامة الصدر, ونقاء السريرة, وصفاء النفس؛ فقد كانتِ فيه (أمّي) محط الأمال ومضرب الأمثال؛ حيث عاشت بلا غشٍّ، ولا غلٍّ، ولا حقدٍ، ولا حسدٍ، لم تغضب يوماً لحَظِّها، ولم تنتقم لذاتها، ولم تحمل شيئاً في نفسها, كانت عوناً لأبنائها على برها, تعتذر للجميع, وتحمل الكلام على أحسن المحامل، وتُؤَوِّل الكلام بما يورث المحبة ويؤلف القلوب. لا تنتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً, كانت حياتها مع الله, وبالله, واشتغالها بطاعة الله, فأغناها بذلك عن الاشتغال بالخلق؛ ثم إنَّ سلامة الصدر, ونقاء السريرة, وصفاء النفس من أنبل الخصال, وأشرف الخلال, التي يدرك بها المسلم عظيم الأجر وحسن المآب، كما هي من الأمور الدالة على: الإيمان, والطمأنينة, واليقين, ومن دوافع العمل الصالح، وموجبات الأجر والثواب, وهي صفات تقرِّب صاحبها من الأعمال التي تفتح له أبواب الخير، وتورده مسالك الطريق إلى الجنة, كما هي خصال ممدوحة شرعًا وعرفًا، من أجلِّ فضائلها: أنها من صفات المؤمنين في الجنة، من تحلَّى بها في الدنيا، سعد في الدنيا والآخرة، وتورث صاحبها؛ راحة القلب، وطمأنينة النفس، ومحبة الخلق. إنَّ الذكر الحسن بالدعاء والمحبة والصدقة وغيره من الأثر الصالح بعد الموت إنما هو نتاج رابط وثيق بين العبد وبين الله تعالى، فكأنّ الموت لا يقطع على المؤمن عمله بل يكون امتداداً له من وجوه أخرى، بما يُهديه ربُّه من ثمرات غرْسٍ سبق له بتوفيق الله تقديمه، وصلاحاً كان عنواناً لحياته, وما يُضاعَف له من حبّات ما زرعَ من سنابل، فالذكر الجميل حصاد وثمرة لمن اجتهد في الزرع قبل الرحيل، فلا نمنّي أنفسنا في محصول لم نتخذ له طلباً، ولا في رِفعة تُوهَب لنا بعد موتنا، ونحن لم نرتقي بأنفسنا في حياتنا، فمن شاء الأثر قدَّم له المسير، والمسير الذي يُذكَر ويؤثّر ويرتفع حقاً ما كان لله خالصاً، مهما قلّ وصغُر وتعثر، لأن الله هو الذي يُرْبِيه ويتولاه ويباركه ويجازي عليه, والله يجزي المحسنين المخلصين. لقد كان من عاجل ثواب ما وفق الله إليه (أمي) من مكارم الأخلاق؛ أنَّ الله أورثها بعد ذلك؛ إدمان الدعاء بحسن الخاتمة, والدعاء بالراحة عند الموت, مع دوام ذكره, وديمومة حمده, والاشتغال بصلاح حالها, والاستعداد لطلب حسن المآل؛ فأدركتْ بسبب هذه الخلال والخصال بعد فضل الله المنعم؛ نعيم الدنيا؛ ومحبة الخلق, وحسن الخاتمة, وعند الله بفضله الجزاء الأوفى. جَمِيْلٌ كُلُّ شَيْءٍ فِيْكِ يَا (أُمِّيْ) جَمِيْلٌ كُلُّ شَيِءٍ كَانْ حَنَانُكِ عَالَمٌ يَمْتَدُّ دَاخِلَنَا بِلَا آخِرْ بُحُوْرٌ مَالَهَا شُطْآنْ وُجُوْدُكِ وَحْدَهُ كَافٍ لِيَبْعَثَ دَاخِلِيْ اطْمِئْنَانْ فَفِي كَفِّيْكِ يَا (أُمِّيْ) شُطُوْطُ أَمَانْ أُحِسُّكِ رَغْمَ مَا فِيْكِ كَأَنَّكِ قَدْ فَرَشْتِ الْأَرْضْ وأَنَّكِ رَوْضَةٌ كُبْرَى مِنَ الْإِحْسَانْ تَصَالَحْتِ مَعَ النَّاسِ فَمَا أَغْضَبْتِ فِيْ يَوْمٍ هُنَا إِنْسَانْ وَمَا يَوَمًا طَلَبْتِ مَتَاعَ دُنْيَانَا فَمَا شَيْءٍ عَلَى قَلْبِكْ لَهُ سُلْطَانْ تَعَلَّقْتِ بِحَبْلِ اللهِ فِيْ صَبْرٍ وَكُنْتِ بِكُلِّ نَائِبَةٍ لَكِ بُرْهَانْ يَجِيْءُ اللَّيْلُ يَسْأَلُنِيْ وَوَقْتُ الْفَجْرِ يَسْأَلُنِيْ فَأَيْنَ الْأَنَ هَمْهَمَتُكْ بِتَسْبِيْحٍ وَتَهْلِيْلٍ وَتَرْتِيْلٍ مِنَ الْقُرْآنْ وَذِكْرٍ كُلُّهُ ذِكْرَى وَذِكْرٍ كُلُّهُ إِحْسَانْ فَقَدْنَاكِ عَلَى غِرَّةْ وسَافَرْتِ. لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِيْ الْعُمْرِ تَغْتَرِبِيْنَ يَا (أُمِّيْ) وسَافَرْتِ بِلَا اسْتِئْذانْ لقد كانت (أمي) تستثمر الوقت استثمار العارفين, وتحافظ عليه محافظة التاجر على ماله الثمين؛ فهي: إمَّا أن تكون في عبادة, أو أنها تستعد لأخرى؛ وكان أنسها وسعادتها بذكر الله تعالى, ولهذا كانت كثيراً ما تقول لا أحتاج إلى جليس أو أنيس؛ وما ذاك إلَّا بما جعله الله في قلبها من الأنس به والفرح بقربه؛ وهي مرتبة لا تنال إلَّا بالعناية والاصطفاء والتوفيق. كانت إذاعة القرآن الكريم بالنسبة لأمي؛ هي مجالس الذكر, وحلقات العلم, وفصول الدراسة والطلب؛ فقد كان لها ميعاد ثابتٌ في اليوم والليلة مع تلك المجالس؛ والتي ربما كانت؛ نور على الدرب, أو؛ قرآن يتلى, أو؛ مداولة لمواضيع شتى, أو برامج علمية وأخبار متفرقة؛ ولقد حصل لي معها في ذلك موقف يكشف عن إدمانها لسماع تلك الإذاعة, ومتابعتها, وحرصها, وتعاهدها؛ فقد كنتُ في مشاركة خارجية في إحدى المسابقات القرآنية, ولمدة أربعة أيام, ولم أخبرها بالسفر والمشاركة؛ وبعد عودتي؛ قمتُ بزيارتها, فقالت لي: (ما شاء الله عليك كنت في أندونيسيا)؛ فأردت أن أوَرِّي وأُكَنِّي؛ فقلتُ لها: بل كنت في المدينة النبوية, فقالت: سمعتُك وأنتَ تتحدث عن المسابقة والمتسابقين, وقد عرَّفو باسمك وأنك في أندونيسيا, فعلمت أنها لا تكاد تغادر هذه الإذاعة المباركة في الليل والنهار, لقد كانت "إذاعة القرآن الكريم" هي نافذتُها على الدُّنيا؛ وهي طريقها؛ للتفقه في الدين, وطريقها لسماع القرآن الكريم. يشهد لذلك الأبناء والبنات والزائرين. يا والدتي الحنون وقد غادرتي ديارنا وأجبت داعي الله: إنَّ حقك عليَّ لم أكن لأنهض به لولا أنكِ تنازلتِ بكثير منه, بل وأحببتِ أن تقنعيني بذلك عملياً, حيث كنتِ الموجه الصادق, والمستشار الأمين, والحضن الواقي, والقلب الرؤوف, كنتِ تعطينني من معاني الرحمة والحب والحنان والأخوة أكثر مما تعطينني من واجب البر وأوامر الأمومة, لقد كنتِ يا أُمِّي لي علم السعادة, وسعادة العلم, ما وجدتكِ يوماً إلا ضاحكة مستبشرةً, تفرحين بقدومنا إليكِ فرحة المحبِّ الصادق, والقلب الخافق, وتحرصين وأنت في ما أنت عليه من التعب والمرض على توفير أسباب الراحة لنا؛ من حسن المنام, وراحة البال, وجيد الطعام, بل وتقدمينني على نفسك في كل ما يأتيك من غال ونفيس. يا (أُمي) الحنون؛ كأن الأزهار تعلمت تفتحها منكِ, ونشرت عبق شذاها من أخلاقك, فلقد علمتيني بلطفك ما يكون لي زاداً في حياتي, فمنك تزودت بالحماية في الدنيا من آلامها, ومنك تزودت من الدنيا بآمالها وأحلامها, لقد كنتِ يا (أمي), ترفعين أكفَّكِ بالليل والنهار إلى السماء تطلبين من الله تعالى المدد, وأنا أنام قرير العين, كنتِ تنصبين أشرعة الدعاء فيسيرها الله تبارك وتعالى بريح طيبة, فلم أشعر خلال حياتي كلها إلا بكل التسهيل واليسر والتوفيق. مهما وصفتك يا (أمي) فلن أقدر على الكمال, ما كنت أظن أني سأقول هذا السرَّ النفيس؛ أمَا وقد غادرتِ دنيانا بحسن الختام؛ فإني أتحدث بذلك؛ وأعلن ذلك؛ وفاءً, واستجلاباً لدعوات الصالحين والمحبين؛ يا أجمل صورة الجمال. صَاْرَتْ حَيَاْتِيْ - بَعْدَ أُمِّيْ - مَسْرَحاً لِلدَّمْعِ؛ وَ الآهَاْتِ؛ وَالتَّذْكَاْرِ فَلِرُوْحِهَاْ مِنِّي التَّحِيَّةُ كُلَّمَاْ لَمَعَتْ سُيَوْفُ الْحَقِّ بِالْمِضْمَاْرِ وَ لِرُوْحِهَاْ مِنِّي التَّحِيَّةُ كُلَّمَاْ جَاْدَتْ غُيُوْمُ الْحُبِّ بِالأَمْطَاْرِ وَ لِرُوْحِهَاْ؛ رُوْحِيْ الْفِدَاْءُ؛ لِتُفْتَدَىْ مَرْفُوْعَةَ الأَعْلاْمِ؛ وَ الأَكْوَاْرِ إِنَّ الْوَفَاْءَ - لِرُوْحِ أُمِّيْ - يَقْتَضِيْ حِفْظَ الْحُقُوْقِ بِهِمَّةٍ؛ وَوَقَاْرِ أُمِّي الْقَرِيْبَةُ – مِنْ فُؤَآدِيَ - دَاْئِماً لَنْ يَنْفِهَاْ مَوتٌ، وَ بُعْدُ لِقَاءِ كانت (أمي) في الدار دوحة خضراء وارفة الظلال, يتهافت الجميع على زيارتها كل حين ودون اسئذان, فيأنس كلٌّ بكلِّ, فلا الدار الحاضنة تستغني بشيء عن غناء طيورها, ولا الطيور الآوية تزهد بدوحتها, وفجأة؛ اجتثت الشجرة من أصلها, فما لها من قرار, فلابد للطيور حينئذٍ من أن تهاجر مرغمة بلا اختيار, وَأَنَّى لها الاجتماع في ليل أو نهار. أَنَا أَمْسَكْتُ بِالْهَاتِفْ لِأَطْلُبَ نَفْسَ أَرْقَامِكْ فَيَأْتِيْنِيْ جَمِيْلًا دَائِمًا رَدُّكْ أَنَا مَا زِلْتُ وَالْهَاتِفْ ومِلْيُونَ مُحَاوَلَةً وَهَاتِفُكِ يَرَنُّ وَلَا تُجِيْبِيْنِ فَرُدِّيْ مِثْلَ مَا كُنْتِ وَصُبِّيْ دَاخِلَ الشِّرْيَانِ تَحْنَانَكْ وَلَكِنْ لَمْ نَكَنْ نَدْرِيْ بَأَنَّكِ دُوْنَ أَنْ نَدْرِيْ هُنَا غَيَّرْتِ عُنْوَانَكْ فَأَيُّ حِكَايَةٍ أَنْتِ وَكُلُّ مَنَابِعُ الْحُبِّ تَصُبُّ الْحُبَّ فِي ذَاتِكْ أَنَا مِنْ جَمِّ تَوْقِيْرِكْ وَإِجْلَالِك فَلَوْ كَانَ لِغَيْرِ اللهِ مَسْمُوْحٌ بَأَنْ أَسْجُدْ لَعُشْتُ الْعُمْرَ يَا أُمِّيْ لِأَسْجُدَ عِنْدَ أَعْتَابِكْ لقد ماتت (أُمِّي) رحمها الله, واختفى من حياتي حبُّهَا وعطفُها وحنانُها, فأمحلت بعدها أرضي في كل بقيع, وصوحت رياضي بعد ربيع. لقد أَفَلت تلك الشمس المنيرة في المغيب وفي معيتها ذهب الأنس والهناء وحلاوة العيش والصفاء. لقد أمست (أُمِّي) رحمها الله بعيدة الدار, وحسبك من البعد سُكنى القبور؛ ولقد غدت جوانحي وكلُّ مشاعري تناديها باشتياق وحنين, وبكاء وأنين, بلا إجابة تشفى, ولا ردٍّ يجيب. إلَى مَنْ أَشْتَكِي وَلِمَنْ أُنَاجِي إِذَا ضَاقَتِ بِمَا فِيهَا الصُّدُورُ بَأيِّ دُعَاءِ دَاعِيَةٍ أُوَقَّى بِأَيِّ ضِيَاءِ وَجْهٍ أَسْتَنَيرُ بِمَنْ يُسْتَدْفَعُ الْقَدَرُ الْمُوَقَّى بِمَنْ يُسْتَفْتَحُ الْأَمْرُ الْعَسِيرُ نُسَلَّى عَنْكِ يَا (أُمِّي) بِا أَنَّا إِلَى مَاصِرْتِ فِي الْأُخْرى نَصِيرُ ليس أشد وطأة من رؤية (أُمِّي) مسجًاة بلا حراك، لأول مرة: أراها ولا تراني، أنظر إليها ولا تنظر إليّ, نظرتُ إلى جثمانها الطاهر وهو ممدود أمام المصلين, حملناه إلى بقيع الغرقد على أكتاف المحتسبين, راقبْتُهُ بعينيَّ حتى وضعناه في الحفرة واللحد، وضعنا الجثمان الغالي على جنبها الأيمن, حللنا وثاق العُقَد من عند رأسها وبطنها ورجليها, تكلم الناس صائحين؛ أهيلوا عليها التراب باسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانهال التراب على أحب حبيب, ونحن وقوف على القبر غير مصدقين, بالأمس كنا نمسح عن جبينها ذرات الغبار, واليوم نجتهد في رمسها بالتراب. وقفتُ عند قبرها بعد دفنها, وانثالت أشجاني تتسابق لتعبر عما ترى من هول الموقف وضخامة الحدث. الْعَينُ تَبْكِي فِرَاقاً لَا رُجُوعَ لَهُ والْقَلْبُ مِنْ بَعْدِ (أُمِّي) لَيسَ بِالسَّالِي فيا (أُمِّي): لنعم الروح روحٌ ضمَّها بدنُك, ولنعم البدن بدنٌ يضمُّه كفنُك, ولنعم الكفن كفنٌ يضمه لحدُك. ووالله الكبير المتعال لو لا تثبيت الله عزَّ وجلَّ لخرج القلب من شغافه ومكانه, والله المستعان. الْيَومَ فَارَقَنِي الْهَناءُ وَأَقْفَرتْ أَرْضِي وَصِرْتُ يَهُولُنِي الْقَفْرُ قَدْ ضَاعَ أُنْسِي كُل

مشاركة :