د.عبدالله بن محمد الجارالله الحمدُ للهِ حمداً لا يبلى, ولا يُحْصى, ولا حدَّ لمنتهاه, لا اعتراض على قدره, ولا رادَّ لقضائه, والصلاة والسلام على سيد الخلق؛ عبده وحبيبه وخليله ومجتباه, وبعد:فهذي حروفٌ رسمتُها بمدادٍ من أعماق قلبي, ومهرتُها بعد الرضا بقضاء الله جلَّ وعلَا بالعبرات والزفرات قبل الجمل والعبارات؛ إِنَّها حروفٌ تَحْكِي ما لا يُحُكَى مِنْ فَقْد؛ العميدة, والحبيبة, والرفيقة, واللبيبة, والرحيمة, سيدة الحب والرحمة والحنان؛ (أمُّي).إنَّها كلمات محزون ملتاعٌ؛ نابعةٌ من صميم القلب ووجدان الفؤاد, أكتب فيها هذه السطور العاجزة، والقوافي الباكية, عن الوالدة الْمَدْرَسة, و(الأم) الحاضنة، حزِنتُ عليها حِزن يعقوب, وبكيتُ بكاء الثكالى, لكنه بكاءٌ بلا دمعٍ يطفئ جمرات الحزن, ولهيب الفَقْد, وحمأة الوَجْد, وحرارة المُصَاب, بكاءٌ لا يُجدي في إزالة مرارة اللَّوعات, وما سلوتُ سلو الأغمار, ولكني تذكرتُ وعد الله للصابرين المسترجعين؛ فامتثلتُ وسلمتُ وخضعتُ وآمنتُ؛ وصِحتُ قائلًا؛ “إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون”؛ أُردِّدها مئات المرات, أردِّدُها في كل لحظة وثانية, أتزود بها في كل وقت وحين. ولئن كان الرثاء عنواناً للوفاء؛ فمَن أحقُّ من (أُمِّي) رحمها الله؛ بالرثاء.مَاذَا سَأَكْتُبُ عَنْ نَهْرِ الْحَنَانِ وَهْلْ يُطِيقُ حَمْلَ شُعُورِي نَحْوَكِ الْوَرَقَ ؟بَلْ كَيفَ أُوفِيكَ مَا قَدَّمْتِ مِنْ كَرَمٍوَمِنْ حَنَانٍ وَمِنْ جُبٍّ لَهُ أَلَقُلَكِ الْفُؤَادِ الَّذِي أَنْتِ الضِّياءُ لَهُ لَكِ الْمَشَاعِرُ وَالْأَنْفَاسُ والْحدق ُ(أمِّي) المفخرة؛ الذكرُ زادُها، والنظافةُ عنوانها، تحسبها أميَّة التعليم؛ وقد أوتيت من فصاحة القلبِ وبيانِ الفطرة ما تفوقت به على المتعلمين مجتمعين, أميَّة كانت ولكنَّ رأيها لدى معضلات المرِّ فوق ذوي العلم والمتعلمين. أوتيت من سلامة القلبِ وحبِّ الخير؛ ما تأسر بهما اللب, وتستميل به الجنان, فإذا بك تُسلس لها القياد عن حب وطواعية، دون ملل أو كلل. تسبقها القُبلة الرحيمة قبل النصيحة الموجهة، واليد الحانية قبل الكلمة الآمرة أو الناهية، والدعوة الجامعة قبل وبعد وأثناء الحديث والمسامرة. كانت (أُمِّيْ) طيبة النفس, ظريفة المعشر, ترضى بالقليل, ويغمرها الكثير, تأكلُ ما وجدت, ولا تسأل عمَّا فقدت, كانت شاكرةً لمن أهداها وأعطاها, غافلة عمن منع أو أعطى قليلاً وأكدى, كانت عفةَ اللسان, طاهرةَ الجنان, طويلةَ الباع بالإحسان, أوجدت بينها وبين القلوب نسباً؛ حيث جعلت بينها وبين ربِّها سبباً, فأحبها حباً صادقاً كلُّ من لاقاها, بل كل من سمع بها واستمع إلى خبرها, كانت لا تحسد الأخيار, ولا تعيب الأشرار, قناعتُها طهرت قلبها من الحسد, وحرصُها على مداراة الناس عفَّ لسانها عن الفدد, رِضِاها بقدر الله منعها من أن تسخط على أحد, لا تذكر أحداً بسوء, كانت تتألف الصغير والكبير, وتفرح بالزوار, صدرها أوسع من دارها, ترى الفضل لمن قدِم عليها وزارها, اجتمع على حبِّها؛ الأبناء والبنات, والأحفاد والأسباط, وزوجات الأبناء وأزواج البنات, وسائر الأقارب والجيران والمعارف. كانت هي دوحتنا الغناء, وخيمتنا الوارفة الظلال, يجتمع حولها الأولاد والأحفاد والأسباط في كل وقت وحين بلا حرج ولا ميعاد, وهي مع هذه الاجتماعات يملؤها السرور؛ حيث التئام الشمل والبر وصلة الأرحام. كان حبُّها هو الحب الباقي؛ فهو حب يعيش في إقبال الحظ وإدباره, وفي تنكر العالم وتجهم وجه الدهر.أحنّ إلى: خبز (أمي), وقهوة (أمي), ولمسة (أمي), وضمة (أمي), وقبلة (أمي), أحتاج إلى حكمة (أمي) ورأيها ودعواتها, أتذكر فرحتها بزيارتي لها, وبهجتها بقدومي إلى مجلسها وبيتها, وإلحاحها عليَّ في الأكل والقهوة والشراب, تخصني من فرحتها بقدومي بالمبيت والإقامة في غرفتها, والإقامة في أخص أماكنها, وتأمر الخادمة بتطييب المنام وترتيب المكان, أتذكر يوم كانت بلا كلل ولا ملل ترجوني أن آكل من هذا كثيراً, وأن أشرب من ذاك كأساً مريئاً, وأن أزيد من هذا قليلاً, وأن لا أبقي من ذاك فتيلاً. كانت تناولني الطعام, أو تطلب مني الأكل منه؛ وهي ترقبني طوال وقتها تملأ عينيها؛ فرحة كما لو كانت هي الآكل الشارب. كانت تحوطني بالعناية والإهتمام, تخاف عليَّ من الحرِّ, وتخشي عليَّ من القرِّ, كم قضيتُ من الأيام أياماً ماتعة بقربها, أنعم فيها بأعذب الحنان, حيث كانت (أمي) تخترع فيها من جدب المعيشة خِصباً خصيباً, ومن سموم الصيف نسيماً عليلاً, ومن زمهرير الشتاء دِفئاً حريراً, وكل ذلك ينساب كالرقراق بين الحصى من نفس رضية نقية بطرائق عجيبة تسلب العقول, لا تعرفها ولا تتقنها إلا قلوب الأمهات, فقلوب الأمهات لا تشيخ, ولا تعجز, ولا تهرم, ولا تشيب, ولا تتوانى, ولا تضعف, فهنَّ أرق الناس قلوباً, وأعظمهم رحمة, وأصدقهم لهجة ومودة, لقد فقدتُ (أمُّي)؛ فقدتُ ذكرياتٍ ضخمة, وتاريخ عتيق, فقدتُ الحضن الحاني؛ والصدر الحنون, الذي فيه وحده “لين” الحياة؛ لأنَّ فيه قلبها وروحها, فمن له أمٌّ كأمي؛ طيب الله ثراها, ورفع منازلها في أعالي الجنات, وفرج عنها كربات يوم القيامة. إني أحنُّ إلى كلِّ تفاصيلها, ولكن الله غالبٌ على أمره, ونحن له مسلمون. قَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) عَونِي دَائِماًوَبِكِ الْعَزَاءُ إِذَا اعْتَدَى الشَّرُّقَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) مَصْدَرَ فَرْحَتِيأَبَدًا يُرَفْرِفُ حَولَكِ الْبِشْرُقَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) نَجْمًا هَادِياًوَلَأنْتِ فِي ظُلُمَاتِي الْبَدْرُقَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) ظِلًّا وَارِفًاآوِي إِلَيهِ إِذَا قَسَا الْحَرُّقَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) كِنًّا دَافِئًافِيكِ الْآمَانُ إِذا بَدَا الْقَرُّقَدْ كُنْتِ يَا (أُمَّاه) نَبْعًا صَافِيًايَشْفِي الْغَلِيلَ وَإِنَّكِ النَّهْرُآوي إِلَى بُسْتَانِ عَطْفِكِ رَائِقًامِنْ حَولِي الْأَطْيَارُ وَالزَّهْرُيوم ماتت (أُمِّي) مات الزمانُ والمكانُ والحنانُ, ومات التاريخ والجغرافيا, ونُزِعت من الأشياء المعاني فصارت كلها سواء, ونزعت من الدنيا الرحمة؛ فصارت كلها بلاء. وما يعزينا ويسلينا ويجبر قلوبنا إلَّا مصيبتُنا في سيد الخلق وحبيب الربِّ جلَّ وعلَا؛ محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ أحداً لن يصاب بمصيبةٍ أشد من موته وفقده بأبي هو وأمي؛ صلى الله عليه وسلم. ولولا أنَّ القلوب توقن باجتماع ثان بفضل الله ورحمته؛ لتفطرت المرائر لفراق الوالدين والأمهات والمحبين.وَمَهْمَا تَكُنْ مِنْ ضِحْكَةٍ بَعْدَ فَقْدِهَافَإِنِّي وَإِنِّي أَظْهَرْتُهَا لَحَزِينُسَلَامٌ عَلَى أَيَّامِنَا قَبْلَ مَوتِهَاإِذِ الدَارُ دَارٌ والسُّرُورُ فُنُونُ(أمَّاه)؛ تمنيتُ نظرةً في وجهك؛ لأرى عقوقي وصبرك, وتمنيتُ نظرةً في عينيك؛ لأرى جحودي ونكراني وعظيم حلمك, تمنيتُ ألمس يديك لأرى دفء عطائك وروعة وصالك, ماذا أقدم لك اليوم وأنت في الثرى؛ لأقر بتقصيري وعقوقي؟ وماذا اقرأ في كتابي؛ غير جهلي ورحمتك؟ وماذا أرى في مسيري؛ إلَّا أسباباً من عطائك وأسباباً من جحودي؟ (أمِّي)؛ يا كلمة كانت تعطر أنفاسي, وتملأ خاطري نوراً وأمناً, (أمِّي)؛ يا عظمةً جمعت من كل شيء جماله, ومن كل معنى جلاله, ومن كل وصل وصاله, إنك الرحمة بل أنت أعلى مراتب الرَّحِم. فيا إلهي! أيُّ صغير بل أيُّ كبيرٍ على الأرض يجد كفايته من الروح إلَّا في روح الأم الحنون؟.أَنَا النَّدْمَانُ مِنْ رَاْسِي إِلَى قَدَمِيأَنَا نَدَمِي: عَلَى أَنِّي تَرَكْتُكِ لَحْظَةً فِي الْعُمْرِمَا كُنْتِ مَعِي فِيهَافَعُودِي لِي وَأُقْسِمُ لَكْبَأَنِّي كُلَّ أَيَّامِي سَأقْضِيهَالِأَجْلِسَ عِنْدَ أَقْدَامِكْأُقَبِّلُهَا وَأَحْمِلُهَا عَلَى رَأْسِيأُهَدْهِدُهَا أُغَطِّيهَافَقَدْ خَدَعَتْنِي أَيَّامِيوَهَا أَنَذَا وَحِيدًا ضَائِعًا مُهْمَلْفَبَعْدِكِ يَا أَحَبَّ النَّاسْبِهّذَا الْقَلْبِ مِنْ بَعْدِكْأَنَا مَاذَا بِهِ أَفْعَلْ؟لقد كانت (خاتمتُها) مليئة بالعبر والتفكر والعظات؛ حيث استجاب الله دعوتها: (اللهم من نعمتك إلى رحمتك), فتساق سوقاً لتموت في المدينة المنورة, ثم دفنها في بقيع الغرقد؛ حيث تبذل الدعوات لأهل البقيع من كل المسلمين في كل وقت وحين, ثم إنَّ موتها قد وقع وهي متلبسة بما يرضي الله, فقد كانت وفاتها؛ بعد أداء فريضة من فرائض الله قيام الليل وصلاة الفجر وسنتها وبينما هي تريد أن تتطهر لتؤدي سنة الضحى, ولقد كان آخر حديثها قبل الشهادة أنها تسأل عن الصلاة, وتريد الوضوء والتطهر, ثم بعد ذلك ما وفقها إليه من الثبات وترديد كلمة التوحيد إلى آخر نفس من أنفاسها, وما حصل بعد ذلك من شهود جنازتها والصلاة عليها من أهل القرآن وحفَّاظه والأئمة والصالحين, مع دعاء الناس ومحبتهم واستغفارهم بما لم يخطر لنا على بال. لقد كان من أعظم أسباب ما أكرمها الله به من التوفيق لحسن الخاتمة والراحة عند الموت؛ مسارعتها في أعمال الطاعة ونوافل العبادة؛ مسارعة لا تقبل التأجيل, ولا التسويف, ولا الأعذار, ولا الاعتذار؛ فأمَّا “صلاة الفريضة” فإنها رحمها الله مع الفريضة في رباط بعد رباط؛ فلم يأت عليها فريضة من الفرائض إلَّا وهي مستعدة لها؛ بالطهور وحسن المظهر والانصراف عن الشواغل وصفاء البال, كانت تستغرق في صلاتها الوقت الطويل, كأنما تتمثل قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ (أرحنا بها يا بلال). وأمَّا محافظتها على “السنن الرواتب” فشأن عجيب؛ حتى كادت تلك السنن الرواتب عندها أن تشبه الفرائض؛ في المحافظة والمعاهدة والتأدية والاستحضار. وأمَّا محافظتها على “قيام الليل” فكانت مضرب المثل والإستعبار؛ حيث كانت تقوم الليل ما شاء الله أن تقوم؛ محافظة على ذلك في السفر والحضر, في الصحة والمرض, في أحلك الظروف وأشد الأحوال, من أحوال الحرِّ والبرد, وتقدم السن والمرض التي تجعل ذهابها للوضوء وتوابعه من أكلف التكليف, وأشق الأعمال, حتى إنها تكاد تبكي من شدة الآلام, وكلفة الاستعداد, ومع ذلك فـ”قيام الليل” بالنسبة لها؛ زاد المسير, وبهجة الفؤاد, وعوناً على الوصول إلى الموصول.وكانت تحافظ على “صيام النوافل” محافظة يعجز عنها الفتية الأقوياء؛ وظلت محافظة على هذا الصيام بلا انقطاع حتى أتاها “اليقين”. فما عرفناها منذ نشأنا في كنفها, وارتقينا على كتفها؛ إلا صوَّامة؛ لجميع النوافل والمواسم؛ تحافظ على صيام شهر الله المحرم, وشهر شعبان؛ كاملين لا ينخرم منهما شيئا, أمَّا صوم أيام البيض, والإثنين والخميس, والستِّ من شوال, وعشر ذي الحجة, فقد كادت أن تشبه شهر الصيام؛ من شدة حرصها, ومحافظتها عليها, فلم تترك صيام ذلك كله لا في حال الصحة ولا حال المرض .كانت سليمة الصدر, نقية السريرة, صفية النفس؛ فقد كانت (أمّي) في ذلك كله محط الأمال ومضرب الأمثال؛ حيث عاشت بلا غشٍّ، ولا غلٍّ، ولا حقدٍ، ولا حسدٍ، لم تغضب يوماً لحَظِّها، ولم تنتقم لذاتها، ولم تحمل شيئاً في نفسها, كانت عوناً لأبنائها على برها, تعتذر للجميع, وتحمل الكلام على أحسن المحامل، وتُؤَوِّل الكلام بما يورث المحبة ويؤلف القلوب. لا تنتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً, كانت حياتها مع الله, وبالله, واشتغالها بطاعة الله, فأغناها بذلك عن الاشتغال بالخلق.ليس أشد وطأة من رؤية (أُمِّي) مسجًاة بلا حراك، لأول مرة: أراها ولا تراني، أنظر إليها ولا تنظر إليّ, نظرتُ إلى جثمانها الطاهر وهو ممدود أمام المصلين, حملناه إلى بقيع الغرقد على أكتاف المحتسبين, راقبْتُهُ بعينيَّ حتى وضعناه في الحفرة واللحد، وضعنا الجثمان الغالي على جنبها الأيمن, حللنا وثاق العُقَد من عند رأسها وبطنها ورجليها, تكلم الناس صائحين؛ أهيلوا عليها التراب باسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانهال التراب على أحب حبيب, ونحن وقوف على القبر غير مصدقين, بالأمس كنا نمسح عن جبينها ذرات الغبار, واليوم نجتهد في رمسها بالتراب. وقفتُ عند قبرها بعد دفنها, وانثالت أشجاني تتسابق لتعبر عما ترى من هول الموقف وضخامة الحدث. فيا (أُمِّي): لنعم الروح روحٌ ضمَّها بدنُك, ولنعم البدن بدنٌ يضمُّه كفنُك, ولنعم الكفن كفنٌ يضمه لحدُك. ووالله الكبير المتعال لو لا تثبيت الله عزَّ وجلَّ لخرج القلب من شغافه ومكانه, والله المستعان. الْيَومَ فَارَقَنِي الْهَناءُ وَأَقْفَرتْأَرْضِي وَصِرْتُ يَهُولُنِي الْقَفْرُقَدْ ضَاعَ أُنْسِي كُلُّهُ بِمَمَاتِهَافَالْعَيشُ بَعْدَ فِرَاقِهَا مُرُّأقبلتُ على غرفتِها وجناحِها وصالتِها وأماكن جلوسها؛ التي طالما أنست بوجودها ونومها وقيامها, أقبلتُ عليها وقد شابها الحزن وعمَّها الخمول, لقد فارقها أنسها برحيل المؤنس؛ (أُمِّي). رحمها الله. دخلتُ الأمكنة التي أمست من (أُمِّي) خالية بعد أن ظلت زمناً جميلًا بها حالية, دخلتُها وكأني بها تبكي وتنوح على فقدها؛ وكيف لا تبكي؛ وقد فقدت تلك الأماكن والمواقع بفقد أُمِّي الذكر والصلاة وتلاوة القرآن والتسبيح والدعاء, وكيف لا تحزن تلك الجمادات وقد فقدت بفقد أُمِّي ما كان يتنزل من الهبات والرحمات ببركة الأعمال الصالحات وواجب الطاعات؛ التي كانت تقام فيها صباحَ مساء وفي كل الأوقات, وفقدت تلك الأماكن, ما كان يَرِدُها من البر والطاعة وصلة الأرحام, لقد كان كل شيء في الدار يَبْكِي ويُبْكِي, كلُّ بقعة, كلُّ صغير وكبير, يُذكِّر ولا يُنْسِي, ويُشْجِي ولا يُسْلي, فدارها التي طالما أسعدتني وأفرحتني قد صارت اليوم بعد الأنس تبكيني, فقد أقفرت كل الأماكن إذ خلت من (أُمِّي) الدار, لقد أوحشت دار الحبيبة _ أُمِّي_ بعد موتها, وأخذ الأخوات بجمع ثيابها وأشيائها, وكأنهم يستعجلون محو آثارها المشجية, ولكن أنَّى لهم أن يمحوا آثارها في العيون والقلوب, فما أعظم مصابك يا (أُمِّي).وَلَقَدْ قَصَدَتُ الدَّارَ بَعْدَ رَحِيلِهَاوَوَقَفْتُ فِيهَا وَقْفَةَ الْحَيرَانِوَقَلَّبْتُ طَرْفِي فِي يَمِينٍ وَشَمْأَلٍفَلَمْ أَلْقَ إِلَّا مَا يُهَيِّجُ حَسْرَتِيفإليك يا من رحلتِ وزرعتِ برحيلكِ الأسى في قلبي بلا اختيار منكِ ولا مني, إلى من غبطها كل أحد على حسن الخاتمة وكثرة الداعين وأهل الثناء, إلى من أحيت بموتها القلوب, إلى من يذكرني بها كل شيء, يذكرني بها أذان المؤذن؛ حيث أتذكر تسبيح أُمِّي, ونسيم الصباح حيث يُذَكِّرني حنان أُمِّي, وشمس الأصيل فلا يكون أمام ناظري إلا قبر أُمِّي, وصلاة الضحى حيث أذكر ساعة وفاة أُمِّي, ورؤية أيِّ أمٍّ؛ فما لمحت أمًّا إلَّا خفق قلبي حزناً على رحيل أُمِّي, وصوت أيِّ أمّ؛ فما سمعته إلا تشوفت أذناي بيأس لأحاديث أُمِّي, بل كل همزة وميم؛ فهي حروف تنشر الأنس من حياة أُمِّي, إليك يا (أُمِّي)؛ وداعاً أيتها الروح الطاهرة, فلن ننسى رحيق أيامك, ولن ننسى طعم خبزك, ولن ننعم بطعم قهوتك, أو بطيب دعواتك ودفء أحضانك, كنتِ لنا ظلَّا, وكنتِ لنا سنداً, وداعاً أيها الحضن الدافي الذي وعانا صغاراً, ورافقنا شباباً, وأظلنا رجالاً, كنتِ لنا نعم الشفاء, وداعاً يا مصدر الحبِّ الذي لم تزيفه معايير الدنيا, ولا قوانين البشر, ولا حسابات الأنام, وداعاً يا من احتملت الهموم والغموم والآلام, وبقيت تحتسبين الألم وتجترعينه من أجل البقية، كان رحيلك كما هي حياتك أنموذجاً للبر والصلة والنخوة والتكافل والعطاء. وداعاً يا أغلى وأعظم وأحن وأطهر من خلق الله؛ وداعاً (يا أُمَّـــــاه). وسامحيني, فقد قصَّرتُ في برِّك وخدمتك, سامحيني يا بهجة الفؤاد, فما وفيتُك أقل حقِّك, سامحيني يا نور العيون, فقد عرفتُ ذلك بعد فوات الأوان.يا (أُمِّي): أسأل الله الذي استودعني في أحشائك جنيناً أن يرحمك بعد أن استودعاناك الرَّدم, وأن يجعلكِ ممن ترحب بهم الأرض, وتستبشرُ بهم السماء. وأسأل الله الذي كم جعل يديك لي وساداً لي أن يجعل أرائك الجنة وسادك بعد أن وسدناك الثرى. وأسأل الله الذي جعلك طريقاً لغذائي جنيناً ورضيعاً وطفلاً أن يسقيك من حوض نبيه صلى الله عليه وسلم شرباتٍ لا تظمئين بعدها أبدًا. وأسأل الله الذي أمتعني بحياتك يا (أُمِّي) أن يمتعك متاعاً سرمدياً في مقعد صدق عند مليك مقتدر. أسأل الله أن يتغمدكِ بعفوه وغفرانه, وأن يمهد لك في أعالي جنانه, وأن يفسح لك في مثواك, وأن يجعل آخرتك خيراً من دنياك, وأن يكرم مرجعك, وأن يبرد مضجعك, وأن يرحمك رحمة الأبرار, اللهم يا خير من نزل به المؤملون واستغنى بفضله المقلون, وولج في سعة رحمته المذنبون, إنَّ لكل ضيف قِرى, وإنَّ (أُمِّي) ضيفك اليوم وكل يوم؛ وهي عفيفة كريمة قدمت عليك وأنت أكرم الأكرمين؛ فاجعل قِراها عفوك ورحمتك ورضوانك وجنتك ومغفرتك وأنت أرحم الراحمين. اللهم إنِّي أمسي وأصبح أرجوك لها, وأخافك عليها, اللهم فصدِّق رجائي بك لها, وأمِّن خوفي وإشفاقي منك عليها, يا رحيم. اللهم ارحم غربتها, وآنس وحشتها, واستر عورتها؛ يوم تكشف الهنات والسوءات. اللهم آمن روعاتها يوم تخشع الأصوات, وتختلف اللغات, ويحشر الأحياء والأموات, وتكثر الحسرات على فوات الحسنات. وتعنو الوجوه للواحد القهار, خالق الليل والنهار, وعالم الخفايا والأسرار. سبحانك يا ألله؛ ما أضيق الطريق على من لم تكن أنتَ دليله, وما أوحش الدرب على من لم تكن أنتَ أنيسه, فكن (لأُمِّي) في الطريق دليلاً, وكن لها ياسيدي في الدرب أنيساً, واجبر مصابنا فيها يا جابر كل كسير, وارزقنا الرضا والخضوع والصبر والقبول.يا (أُمِّي) اليوم نحتسبك عند الخالق جلَّ وعلَا, ولكِ علينا دعوات نبذلها, ووفاءٌ نتعاهده, وصلةٌ وبرٌّ نداوم عليه, وما عند الله خير وأبقى. _______د. عبدالله الجاراللهالمشاركة
مشاركة :