أدى فوز جو بايدن بسباق الرئاسة إلى البيت الأبيض ومن قبلها التوتر مع الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو وزيادة التوترات الإقليمية مع دول الجوار الجغرافى إلى قيام تركيا بالبحث عن بدائل استراتيجية تتيح لها مساحات حركة ومرونة في مواجهة الضغوط المحتملة التي تأتى كنوع من العقوبات على سلوك أنقرة المثير للجدل والتحديات التي تفرضها على كل الأطراف؛ وتأتى الصفقات المتتالية مع روسيا في عدد من مناطق الصراع في المنطقة وزيادة التعاون مع الدول الأسيوية والأفريقية والصين كأطار لإستراتيجية التحرك الموازى والبديل بالنسبة لتركيا ورئيسها الساعى لفرض دور تركى على الساحتين الإقليمية والدولية. وسنركز في هذا التحليل على تنامى العلاقات التركية الصينية كنموذج لهذا التحرك مع عرض لوجهات نظر الخبراء في البلدين. فإذا كان التقارب بين الصين وتركيا يبدو مستحيلًا لفترة طويلة، فسيكون للدولتين الآن العديد من المصالح للتعاون. من بينها، “طريق الحرير الجديد” الصيني من جانب، واحتياجات تركيا الاستثمارية والتمويلية التي عززتها أزمة فيروس كورونا من جانب آخر. وبالنسبة لأنقرة، يبدو هذا التقارب الآن أكثر أهمية مع استمرار تنامي عدم ثقة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الغرب. يرى الخبراء في الغرب وحتى وقت قريب، أنه لا يمكن لتركيا أن تتوصل إلى اتفاق استراتيجي مع روسيا أو الصين؛ وذلك لأن هناك سؤالًا ملحًا يحتاج إلى إجابة واضحة من أنقرة بخصوص القومية التركية والدعم الدائم والمعلن من تركيا، خاصة بالقضايا الانفصالية في الدولتين (شينجيانغ في الصين والشيشان في روسيا). وكان هذا الوضع بالنسبة للخبراء في الشأن التركي، حتى بعد نهاية الحرب الباردة، أمرًا ضامنًا لتقارب المصالح التركية والغربية. لكن مثل هذا النهج في التحليل ثبت فشله بسبب تعريفه الواسع للغاية للمصالح الوطنية. تركيا، مثلها مثل الغالبية العظمى من الدول، تدافع أولًا وقبل كل شيء عن المصالح الملموسة التي تهمها. وتشمل هذه حرمة حدودها -وبالتالي محاربة القومية الكردية- ووسائل استقرارها الاقتصادي والسياسي أو قدرتها على أن تكون لاعبًا رئيسًا في المنطقة. وبالتالي، فإن قضية الشعوب التي تُعتبر “إخوة” باسم أيديولوجية قومية معينة لا تزن كثيرًا في مواجهة الحقائق الدبلوماسية والاقتصادية. ربما هذا هو ما يفسر سبب وجود تقارب بين تركيا والصين. تقارب يمكن تأكيده على المدى الطويل. بداية من عام 1971 وحتى التسعينيات من القرن الماضى، كانت العلاقات بين الصين وتركيا محدودة نسبيًا. وتم تعزيزها لأول مرة من خلال التجارة: بعد الحرب الباردة، قدم الصينيون لتركيا سلاحًا دعمًا للمواجهة مع الأكراد. وبفضل بكين، تمكن الأتراك من تطوير أسلحتهم الباليستية ومدفعيتهم. ومع ذلك، لم يكن هناك المزيد من التعاون العسكري بين البلدين لسبب لا يمكن تجاهله، عارضت الدول الغربية داخل الناتو مشروعًا تركيًا يخطط لبناء نظام دفاع مضاد للصواريخ مع شركة صينية. عرض الأخير أفضل الأسعار، وأقصر المهل، وكان بمثابة تعاون تكنولوجي حقيقي. قبلت تركيا الاقتراح الصيني في نوفمبر 2013. ولكنها اضطرت تحت ضغوط غربية إلى التخلي عنه في عام 2015. وحتى اليوم، فإن فكرة تخلي تركيا تمامًا عن حلفائها داخل الناتو لصالح الصين، أمر مازال يخضع لوجهة النظر الأمنية والعسكرية التي قد تتغير في مواجهة الضغوط والعقوبات الغربية المحتملة. في حين كان هذا التعاون العسكري محدودًا، سمحت التنمية الاقتصادية للصين في فترة ما بعد الحرب الباردة بإمكانية تعزيز العلاقات الثنائية بين بكين وأنقرة. يرى الاقتصاديون الأتراك مثل إمري ألكين أن استقرار العملة الوطنية -الليرة التركية- يمر عبر التعاون الوثيق مع دول مثل الصين. في عام 2020، فقدت الليرة 30٪ من قيمتها. تبلغ نسبة البطالة حوالي 13.4٪ وفقًا للأرقام الرسمية المقدمة في يونيو و23-25٪ وفقًا للأرقام غير الرسمية التي تدعمها بعض التحليلات. بالنسبة لتركيا، فإن الحاجة إلى شركاء اقتصاديين أقوياء أصبحت ملحة بشكل متزايد. سيضر التأثير الاقتصادي المستقبلي لأزمة Covid-19 حتمًا بالاقتصاد التركي المتعثر بالفعل. وهذا يجعل العلاقة مع الصين التي اجتازت الأزمة الصحية جيدًا ولا تزال تشهد نموًا اقتصاديًا تحسد عليه أكثر جاذبية لأنقرة. وأظهرت بكين بالفعل قدرتها على دعم القوة التركية في مواجهة صعوباتها الاقتصادية. على سبيل المثال، في عام 2018، قدم البنك الصناعي والتجاري الصيني المملوك للدولة ICBC قرضًا بقيمة 3.6 مليار دولار لتركيا لدعم مشاريع الطاقة والنقل بعد أن فقدت الليرة 40٪ من قيمتها، وأظهرت الصين رغبتها في دعم التنمية الاقتصادية التركية دون أن يضطر الرئيس أردوغان إلى الرضوخ للضغوط الغربية. وهذا يجعله شريكًا مهمًا للسلطة الحاكمة. تستفيد الصين أيضًا من الاتجاه السياسي والفكري داخل حزب العدالة والتنمية وعلى نطاق أوسع بين النخب السياسية التركية حول الرئيس أردوغان. يبدو أن النهج السائد في السنوات الأخيرة كان نهج “الأوروبيين الآسيويين”. إنهم يرون تركيا كدولة في “وضع دفاعي” سياسيًا واقتصاديًا، وتحتاج إلى إقامة روابط قوية، بما في ذلك الروابط الاقتصادية، مع الدول غير الغربية المزدهرة. في بحثهم عن الاستثمارات والاتفاقيات التجارية التي يمكن أن تضمن استقلال بلادهم، فإن الصين ترسخ نفسها كشريك طبيعي. يعد “طريق الحرير الجديد” الصيني (مبادرة الحزام والطريق) عنصرًا أساسيًا آخر في التقارب بين بكين وأنقرة. أوضح أردوغان خلال زيارته للصين في يوليو 2015: إن تركيا تنظر بإيجابية إلى أي استثمار صيني، خاصة في بنيتها التحتية، وتحلم بقاعدة لوجستية وصناعية للشركات الصينية. من بكين، من المتوقع أن تكون تركيا قلب “طريق الحرير” بين أوروبا والصين، وخاصة للشحن بالسكك الحديدية. على سبيل المثال، منذ نوفمبر، أصبح من الممكن ولأول مرة أن يسافر قطار شحن بدون توقف من مدينة شيان في وسط الصين إلى أوروبا بفضل نفق مرمراي الذي شيده وموله الصينيون. الاستثمار الصيني الرئيسي في تركيا (1.7 مليار دولار) مرتبط أيضًا بمبادرة الحزام والطريق: إنه بناء محطة الطاقة الحرارية في هونوتلو، التي تم الإعلان عنها في 22 سبتمبر 2019، ومن المفترض أن يساعد في تعزيز أمن الطاقة في تركيا ومساعدتها في نهاية المطاف على أن تصبح مركزًا حقيقيًا للتجارة الدولية. تهتم الصين أيضًا بالموانئ التركية، لتكون مرتبطة بمشاريع تطوير السكك الحديدية. ما بين التقارب والمواءمة يجب التأكيد على حقيقة في العلاقات الدولية وهي أن التقارب لا يعني المواءمة؛ فالعلاقات الأمنية والاقتصادية القديمة بين الأتراك والغرب لن تختفي فجأة، وهناك بعض الانزعاج بين أبرز الخبراء الصينيين بشأن ما يُنظر إليه على أنه توسع تركي في شرق البحر المتوسط. تورط أنقرة في ليبيا والتنافس بين الأتراك والسعوديين هما أيضًا مواقف تتعارض مع المصالح الصينية في الشرق الأوسط. وقبل كل شيء، يتطلب “طريق الحرير الجديد” والاستثمارات التي تنطوي عليه بعض الاستقرار الإقليمي. وبالتالي، فإن السياسة الإقليمية التركية، خاصة إذا ظلت على الخط الذي يتم تقديمه على أنه “عثماني جديد”، يمكن أن تستمر في التأثير بشكل سلبي على المصالح الصينية في الشرق الأوسط. ولكن من ذات المنطلق، فإن التأثير المهم جدًا للأمريكيين في بعض الخليج العربى، أو الحرب الباردة بين إيران والسعودية، أو عدم قدرة إسرائيل على إيجاد وسيلة، بشكل نهائي، لصنع السلام مع الفلسطينيين هو أيضا من الأمور التي تهم الصينيين في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع بكين من إقامة علاقات أقوى وأقوى مع جميع دول الشرق الأوسط. “العثمانية الجديدة” التركية، التي يمكن أن يُنظر إليها على أنها مقاربة عاطفية للتاريخ والأمة أكثر من كونها مشروعًا توسعيًا ملموسًا وفقا لرؤية الخبراء، لن تكون بالضرورة خطيرة على المصالح الصينية مثل رغبة إسرائيل ودول الخليج لتحجيم الخطر الإيرانى في السنوات القادمة. لذلك سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن السياسة الخارجية لأردوغان يمكن أن تعرقل هذا التقارب الصيني التركي. تصنيع منهج تركي صيني يمكن للمرء أن يتخيل الوضع في شينجيانغ باعتباره النزاع الذي يمنع أي تقارب جدي بين الصين وتركيا. لكن واقع العلاقات الدولية لا تهيمن عليه بالضرورة الهوية العرقية أو “المبادئ الكبرى”. ويرى الخبراء الصينيون الذي يرجحون نجاح للعلاقة بين تركيا والصين أن المصالح الوطنية تكون في الغالب الأكثر إلحاحًا والأكثر واقعية، فضلاً عن الاحتياجات الاقتصادية، مقارنة بالأمور الأكثر نظرية أو أيديولوجية. ويرون أنه تم التركيز بشكل كبير على الطابع الناطق باللغة التركية للإيجور لدرجة أنه تم التغاضي عن بعض النقاط المهمة. على سبيل المثال، تخشى تركيا، مثل الصين، المسألة الانفصالية. لا يمكن اعتبار هذا الخوف هامشيا: فهو موجود تقريبًا في الحمض النووي لهاتين الحالتين. بينما هناك أمور مشتركة تمكن البلدين من تجاوز تلك المسألة؛ ففى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطوريتان في حالة تدهور مهددة بالانهيار. كانوا يعيشون تحت تهديد التقسيم الذي كان سيعني إبادتهم. كانت هذه الإبادة حقيقة واقعة بالنسبة لتركيا، وريثة الإمبراطورية العثمانية والمولودة بعد وفاة هذه الأخيرة. في المخيلة السياسية، في أنقرة كما في بكين، يبقى الخوف من تقطيع الأوصال بدعم من قوى أجنبية معادية حقيقة واقعة. يؤدي هذا، في الواقع، إلى قلق معين في مواجهة الأطراف التي تسكنها أقليات عرقية معادية، على الأقل من وجهة نظر القوة المركزية بين التوترات مع الأكراد والخطر المحدد الذي يمثله تنظيم الدولة الإسلامية -من وجهة نظر هؤلاء الخبراء- تجد أنقرة نفسها هنا في وضع يجعل موقف تركيا أقرب إلى موقف الصين فيما يتعلق بمكافحة الانفصالية والجهادية. يفسر هذا بلا شك تطورًا معينًا للقوة التركية فيما يتعلق بمسألة الإيجور. اندلعت اشتباكات في شينجيانغ، مما أسفر عن مقتل 197 شخصًا. تحدث رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء آنذاك، عن “نوع من الإبادة الجماعية” ضد الإيجور. خلال زيارته في يوليو 2015، هذه المرة كرئيس، تغير الخطاب. أكد أردوغان بشكل خاص معارضة تركيا لأي شكل من أشكال الإرهاب وأي مساءلة في وحدة أراضي الصين. قبل هذه الزيارة بوقت قصير، ورداً على المظاهرات المناهضة للصين، كان قد ندد بالتقارير التي تندد بوضع الإيجور على أنها مشبوهة. كما أدان عنف بعض النشطاء في تركيا ضد التمثيل الدبلوماسي التايلاندي في البلاد (كانت تايلاند قد أعادت لتوها الإيجور إلى الصين) وضد السياح من شرق آسيا. خلال هذه الفترة، نلاحظ ذات الرغبة في التهدئة من الجانب الصيني؛ مثال ذلك طريقة التعامل مع فضيحة كان من الممكن أن تكون قاتلة للعلاقات الثنائية على المدى القصير على الأقل. قبل وقت قصير من زيارة الرئيس التركي للصين، نما إلى علم بكين أن الدبلوماسيين الأتراك في جنوب شرق آسيا يمنحون جوازات سفر تركية للإيجور الذين غادروا الصين بشكل غير قانوني. والأسوأ من ذلك، وجد بعض من هؤلاء الإيجور أنفسهم، في سوريا، يقاتلون في صفوف الإرهابيين. على الرغم من كل شيء، فإن الخطاب الصيني الرسمي، بعد أن تجنب لبعض الوقت توجيه أصابع الاتهام على وجه التحديد إلى تركيا في مساعدة المهاجرين الإيجور غير الشرعيين، بل حرص على التفريق بين الحكومة التركية وبعض الدبلوماسيين في السفارات والقنصليات التركية. من الواضح، في بكين كما في أنقرة، أن هناك رؤية تفرض نفسها وترى أن مسألة الإيجور لا يجب أن تعرقل احتمالات التقارب الإستراتيجى بين البلدين، خاصة عبر مبادرة الحزام والطريق. في مايو 2016، حاولت الحكومة التركية أن تثبت لبكين أنها تعمل وفق المنهج التوافقى والبراجماتى مع اعتقال مائة من الإيجور الصينيين بجوازات سفر مزورة، أثناء عبورهم مطار إسطنبول إلى المملكة العربية السعودية؛ وفي الآونة الأخيرة، في يوليو 2020، اقترحت المعارضة في البرلمان التركي اقتراحًا يدعو إلى إجراء تحقيق في وضع الإيجور في الصين وقد تم رفضها بغالبية من قبل حزب الرئيس، حزب العدالة والتنمية، وحلفائه في حزب الحركة القومية اليميني المتطرف. يمكن للمرء أن يتخيل أنه بناءً على تطور العلاقات الثنائية بين أنقرة وبكين، سنرى “ورقة الإيجور” التي تستخدمها السلطات التركية مرة أخرى. فهي تظل أداة ضغط على الصينيين في حالة حدوث مواجهة مؤقتة، في القضايا الاقتصادية أو الدبلوماسية. كما يمكن أن يتجسد النهج “الأوروبي الآسيوي” للصداقة التي تتعزز بمرور الوقت. في هذه الحالة، سيكون التفاهم بين البلدين بحيث يمكن مناقشة الموضوع في إطار علاقة ثنائية سلمية، بمعنى يمكن أن يرضي المصالح الأمنية الصينية والرأي العام التركي. في كلتا الحالتين، لن تمنع قضية شينجيانغ الدفء في العلاقات الصينية التركية كما هو موضح أعلاه. التحديات الغربية والعلاقات مع روسيا من المؤكد أن العلاقات المتدهورة مع الغرب تدفع تركيا جزئيًا إلى أحضان الصين. في العديد من الخطب الشعبوية، يزعم أردوغان أنه مستعد للتخلي عن سعي تركيا الطويل للاندماج في الاتحاد الأوروبي لكي تصبح عضوًا في منظمة شنغهاي للتعاون. موقف قد يبدو وكأنه مزحة، ولكن لم يكن ليتم التحدث به علنًا قبل عشرين عامًا؛ ففي السنوات الأخيرة، نما العداء الشعبى للولايات المتحدة فيما ينظر غالبية الأتراك الآن إلى روسيا على أنها حليف أفضل، على الرغم من أن هذا يمكن القول إنه انعكاس للانزعاج من واشنطن أكثر منه تعبير عن انعكاس تحالف حقيقي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن تلك الحالة من التوتر وربما العداء ليست جديدة بل هى نمط قد يبدو سائدًا في العلاقات بين واشنطن وأنقرة؛ وللتذكير، لم تكن العلاقات الأمريكية التركية جيدة على طول الخط. على سبيل المثال، التوترات حول قبرص في الأعوام 1960-1970، والحرب في العراق عام 2003 … أسباب الانزعاج المتبادل عديدة. لكن في السنوات الأخيرة، تضاعفت مصادر الاستياء وغذت مناخ عدم الثقة الذي يهدد بإعاقة العلاقات الثنائية على المدى الطويل. على الجانب التركي، تم تحديد الدعم الأمريكي للجيوب الكردية في شمال سوريا ورفض تسليم الزعيم الديني السياسي فتح الله جولن، الذي يُعد في أنقرة مسؤولاً عن الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016. إضافة إلى أزمة شراء أنقرة نظام الدفاع الجوي الصاروخي إس-400 من روسيا وما ترتب عليه من توتر في العلاقات وموقف موحد من أعضاء الكونجرس بضرورة معاقبة تركيا. ورغم ذلك؛ لا تزال هناك أسباب تشير إلى تحسن محدود في العلاقات التركية الأمريكية. من الناحية الجيوسياسية، تُعد تركيا بالنسبة للمؤسسات الأمريكية لاعبًا رئيسًا؛ ووفقا لرؤية تلك المؤسسات فإن عزل مثل هذه الدولة بشكل دائم سيعني الحد من قدرتهم على العمل في البيئة الإقليمية للبحر الأسود، في جنوب غرب أوروبا، وخاصة في شرق البحر الأبيض المتوسط وأيضا منطقة جنوب القوقاز التي تقع في الفناء الخلفي الروسي. وبشكل أكثر تحديدًا، قد تكون أنقرة القوة الإقليمية -من وجهة النظر الأمريكية – القادرة على مواجهة الطموح الروسي بامتلاك قواعد عسكرية في البحر الأبيض المتوسط غير سوريا. من ناحية أخرى، يعد الجيش التركي من أفضل الجيوش تجهيزًا في الشرق الأوسط، وركيزة مهمة لحلف الناتو. من جانبهم، يحتاج الأتراك أيضًا إلى الولايات المتحدة للحفاظ على مكانتهم كقوة إقليمية: فهم بحاجة إلى دعم مالي أمريكي، لا سيما في فترة الانكماش الاقتصادي الحاد هذه لتقليل اعتمادهم على الغاز الطبيعي الروسي، يحتاجون أيضًا إلى الغاز الأمريكي المسال. لكن هل سيكون هذا كافياً لجعل أنقرة متحالفة بشكل كامل مع واشنطن؟ هذا غير محتمل في الواقع: ما يزعج في العاصمة الأمريكية هو الرغبة في الاستقلال التركي، والتي من غير المرجح أن تختفي. من المرجح أن يكون زواج مصلحة تركي أمريكي، على عكس أي زواج مصلحة صيني تركي آخر. كل شيء سينتهي في الأشهر المقبلة، في بداية إدارة بايدن القادمة. يعرف الرئيس المقبل تركيا جيدًا: هو الذي ذهب، بصفته نائبًا للرئيس، إلى أنقرة بعد الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، عندما اتهم البعض الأمريكيين بدعم محاولة الإطاحة من أردوغان. إذًا أصبحت العلاقات الثنائية التركية الأمريكية معقدة، ولكن لا يزال من الممكن إصلاحها، يمكن للمراقب أن يكون أكثر تشاؤمًا بشأن العلاقة مع أوروبا. ويمكن الاستدلال على طبيعة العلاقة من خلال مقال مهم كتبه لوك فان ميدلار، المستشار السابق لهيرمان فان رومبوي (رئيس المجلس الأوروبي من 2009 إلى 2014)، ويعكس وجهة نظر النخب الأوروبية الأكثر ثقافة وتأثير في صناعة القرار الأوروبي. يشير الكاتب إلى جانب قد يكون سبب إحباط وخيبة أمل الجانب التركي منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وحتى اليوم. على وجه الخصوص، حقيقة أنه منذ اتفاق أنقرة في 12 سبتمبر 1963، تم التلميح إلى أنقرة بانضمام محتمل إلى الاتحاد، على الرغم من المقاومة القوية في عدد من الدول الأعضاء. حقيقة أخرى مثيرة للاهتمام هي أنه يبدو أنه يشعر بالإهانة لرؤية السلطات التركية تريد استئناف دورها بالكامل كقوة إقليمية. يمكن انتقاد عدد من القرارات الدبلوماسية للحكومة الحالية من أوروبا؛ من ناحية أخرى. لذلك “فإن حرمان تركيا من مكانتها كقوة إقليمية هو تفكير أمني ينكر تاريخ وجغرافية هذا البلد”. والأهم من ذلك طبقا للمقال المشار إليه، يجب التأكيد على أن اندماج اليونان وقبرص في الاتحاد الأوروبي يعني الوقوف إلى جانب هذه الدول في نزاعات الجوار. “كان المرء يتوقع أن منطق التكامل اليوناني والترشيح التركي سيعني إعادة إنتاج المصالحة الفرنسية الألمانية بين عدوين تاريخيين آخرين، في البحر الأبيض المتوسط هذه المرة”. بل على العكس، يؤكد الكاتب ما كان يُنظر إليه دائمًا على أنه احتمال رهيب وخوف من الجانب التركي، خاصة بين القوميين: الاتحاد الأوروبي هو في الواقع “نادٍ مسيحي” لا يسعه إلا تركيا. كعدو حضاري. تشير هذه المقالة وغيرها في الصادر عن مراكز الفكر في أوروبا، من نواحٍ كثيرة، إلى توترات بين أوروبا وتركيا تتجاوز موضوع الساعة. تنظر القوى السياسية والمفكرون داخل الاتحاد الأوروبي بشكل متزايد إلى تركيا باعتبارها روسيا متوسطية، لا يمكن لأحد أن يجادل معها. وفي تركيا نفسها، هناك قوى سياسية أخرى، ومثقفون آخرون، على استعداد للقيام بدور العدو هذا باسم أيديولوجيتهم القومية. لذا فمن الرهان الآمن أن العلاقات الأوروبية التركية لن تهدأ حقًا على المدى القصير: إذا لم ينقذ الأمريكيون علاقتهم مع الأتراك، فإن تركيا تخاطر بالابتعاد عن المعسكر الغربي. وإذا كان الأمر كذلك، فلن يكون أمامها خيار سوى تعزيز علاقتها مع الصين. إن روسيا شريك مفيد بالفعل، لكنها محدودة. ويرون أن الأمر بعيد عن تحالف بين الكرملين وأنقرة: “12 حربًا حرضت تركيا ضد روسيا من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين، وليس للدولتين نفس المصالح الوطنية في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. الشرق … يمكننا أن نرى أنه في سوريا، ينخرط البلدان في تسوية صعبة يمكن أن تنهار بسرعة. في ليبيا، يعارض الأتراك والروس وجهًا لوجه، فالأول يدعم الحكومة في طرابلس، والآخر المشير خليفة حفتر. القوتان هما ببساطة متقاربتان جغرافيًا، لهما مصالح مختلفة للغاية، بحيث لا يجتمعان على أساس دائم. من ناحية أخرى، تتمتع الصين بالقدرة المالية والمسافة الجغرافية التي تجعلها، على الأرجح، حليفًا رئيسيًا لتركيا في بداية القرن الحادي والعشرين”. في المقابل يرى الخبراء الصينيون أن التقارب الصيني التركي سيترسخ بمرور الوقت، وسيكون انتصارًا دبلوماسيًا كبيرًا لبكين. لأنه سيكون بمثابة نجاح لبكين في تحويل خصم سياسي وأيديولوجي محتمل إلى حليف دبلوماسي وشريك اقتصادي. ومثل أي انتصار، فهو على الأقل بسبب استراتيجية الفائز بقدر ما هو بسبب أخطاء اللاعبين الآخرين، في هذه الحالة، الغرب.
مشاركة :