ثمانية قصص قصيرة تضمّها المجموعة التي استعار من القصة الأخيرة فيها عنوانها لتكون العتبة الأولى للمجموعة بكاملها، ولهذا مايسوغه فهي تتعالق مع نص تراثي مشترك مع الآخر هو نص كليلة ودمنة وتتداخل مع ثقافات أجنبية هي الثقافة الصينية والهندية، تدور أحداثها حول موضوع معاصر يتصل بوباء كورونا فتتقاطع وتتوازى الوقائع الحاضرة مع فضاءات الخيال والفانتازيا وتستدعي البينيّات، فمن الأدب إلى الطب إلى التاريخ موضوعات وعلوما ومعارف من الماضي إلى الحاضر، ومن الخبر إلى الوثيقة، فنحن أمام نسيج سرديّ تتشكّل من خلاله بنية القصة رؤىً وصياغةُ على نحو تتضامّ فيه الدلالات و تلتقي العلامات على صعيد واحد؛ فالشخصيات بأسمائها الأجنبية ذات الإيقاع المختلف الذي يحمل خصائص لغوية وصوتيّة تومئ إلى الصين بوصفها البلد التي نشأت فيها( كورونا) الفيروس الذي يبدو ضمن سلسلة من العلامات السيميائية التي تنتج متضافرة دلالات النص، فالخفّاش وهو طائر عشوائي يتماهى مع الوباء يعشق الظلام يرمز إلى المأزق الذي نشأ في أحضان بحر من الظلمات مجهول المنبت و الأصل، وإن كانت بلد المنشأ التي يشارإليها ببنان الاتهام دائما هي الصين فالشخصيات صينيّة و الفيلسوف الحكيم هنديّ شرقيّ والمخطوطة الوثيقة ضاعت منها صفحات كثيرة، فلم يعد بالإمكان التعرّف على الحقائق الأصلية التي تم العثور عليها بالصّدفة ولم تكتمل فصولا، وفيه إشارة إلى الاضطّراب والغموض الذي يرافق انتشار الوباء ، أمّا التناصّ فيأخذ بأسلوب السرد كما ورد في كليلة ودمنة ويقوم على أمثولة رمزية فالخفاش واتنين والخنزير والزرافة والأسد والتّنين و الصقر رموز وعلامات، بعضها يشير إلى التدافع نحو الغنيمة ما أدى إلى انتشار الوفاء بفضل العشوائية والطمع والغباء، وفي مقابل هذه التشكيلة الرمزية التي تفسر علة المأزق وعشوائية المصالح والتدافع نحوها في صراع يومئ إلى تداعيات الأزمة ومآزقها، أما الوجه الآخر فقد تمثل في النخلة التي تطاول عنان السّماء والغابة التي أقفلت المنافذ دون التّنين وبقيت على اتصال معه باستمرار، وإذاكانت الغابة رمزا لعالم تتصارع فيه القوى ودول يغزوها التنين ويفتك بها الوباء، فالنخلة رمز واضح الدلالة، وكذلك المرموز له، ويكاد ينطق باسمه صريحا حين يتحدث عن الاجراءات الوقائية و التحصي والإعلاق، والوقائع الموصوفة و الصقر الحريص على غابته التي تأخذ معنى جديدا يفارق المعنى السابق ؛ إذ يرد –هنا – دالّا على الحوزة والوطن، والخنازير الموبوءة والحمام الزاجل الذي مر بالقرية ؛ فنحن أمام (أليجوريا) أي أمثولة رمزية مكتملة الأركان تستلهم أمثولة رمزية أخرى تراثيّة ذات بعد عالمي فهي هندية الجذور فارسيّة المنشأ عربية اللغة، وهذه السمة العالمية لبّت الحاجة الإبداعية في هذا الظرف التاريخي فسلك أسلوب التناص الذي يستلهم البنية السردية لهذا الأثر التراثي الذي رواه الفيلسوف الهندي بيدبا لدبشليم الملك.، فيدخل في إطار التناص القائم على التحوير أي الاستلهام الذي يحافظ على الأصل فيتمثله إطارا وتشكيلا دون أن يغيّب الأصل، وذلك من بين الأشكال الثلاثة المعروفة للتناص (الاجترار والتحوير والامتصاص) فهو يقع في المىتبط الوسط من مراتب التعالق مع النصوص الأخرى، وهذا ما فعله مع (كليلة ودمنة) فادبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف الراوي والمروي له في النص الأصلي حاضران في القصة . الصقر والأسد رمزان يوحيان بالقوة والأنفة والهيمنة، والصقررمز عربي يومئ إلى التحليق في القمم، والأسد رمز عالميّ، كما أنّ التّنين رمزصينيّ يرمز إلى القوة و السلطان، والخنزير رمز للحرب، ولكنه رمز للقذارة والبلادة وافتقاد اغيرة، والزرافة رمز للغرور والهيبة والعجب بالنفس والببغاوات رمز للغباء والتبعية، والخفاش رمز للوباء، والمنجل الذي في بد الخفاش كما صوّره الراوي رمز للموت ولحصاد أرواح الناس يدل على ذلك رؤية الخفاش للمائدة التي تحوّلت في نظره إلى سحابة من المعقّمات، أما المرأة الزوجة الثانية للرجل الصيني الذي اقتاد الخفاش إلى المطبخ اترمز إلى النسخة الثانية من الوباء (كوفيد 19) التي سرقت اللون الأصفر وهو رمز للفرح و البهجة، ولعل المرأة (تري نو) هنا ترمز إلى الاعمل الاستخباري أيضا، و المخطوطة رمز أكبر يوميء إلى حضور الماضي في الحاضر، ولكن الرمز الأدبي لا يخضع للدلالات القطعية . عمد صالح السهيمي إلى صياغة (أليجوريا ) رمزية مستمدا عناصرها من الحيوانات، مستلهما كليلة ودمنة موحيا بأبعاد المأزق الذي مر به العالم ومبيّنا الأدوار الخفيّة التي نهضت بها أطراف الّلعبة . وفي الإطار ذاته تأتي القصة الأولى من المجموعة معنونة ب (معلقة الفقد) محورها الموت بسبب الوباء عينه الذي كان مدار القصة الأخيرة (المخطوطة الأخيرة) وقد استهلها بالتناص القرآني (ظلمات بعضها فوق بعض) واختار لها مكانا نائيا على شاطيء البحر ؛ فالبحر والغربة والموت ثلاثية تحيط ببطل القصة في منتجعه النائي معادلا نفسيّا للحالة التي يعيشها، فقد حشد السارد (الأنا الثانية للكاتب) كل هذه العناصر التي ذكرتها مضافا إليها سواد الليل والطوق المفروض من الحصار ومنع التجوال في ذلك المعتزل ممثلا في القرية النائية حيث الأمواج و الماء المالح والعباءة السوداء والرمل وأكداس من الأشياء المثقلة بالكآبة ورائحة الموت التي تخيّم على المكان من خلال معجم مثقل بمفرداته الرئيسة المتكرّرة والأجواء المقفرة من مرافق الحياة (الماء و الكهرباء و الاتصالات) والغذاء الشحيح والبكاء الغزير، والحوارات المثقلة بالدموع والشكوى والأنين، واستدعاء الرّثاء من عمق التراث حيث ديوان أبي ذؤيب الهذلي الذي فقد أبناءه الخمسة في جائحة الطاعون متمثلا قوله في قصيدته الشهيرة التي سميت ب(معلقة الفقد ) العنوان الذي اختاره الكاتب لقصته هذه ؛ فالقصة تتّكيء على شبكة من العلاقات بين عناصر متراكمة كمّاً متواشجة بنيةً بدأت بأية مقتبسة و انتهت كذلك بآية كريمة (والصبح إذا تنفس) فهي ذات بنية دائرية، وسلسلة من الحوارت التي تدور حول الفقد والحزن، وجملة مختارة من أبيات الرثاء، منهج بنائي يناسب المحور الرئيس للموت، فالتراكم الكمّي يفضي إلى تصاعد كيفيّ في القصة ينتهي إلى إيحاء بالانفراج في لحظة التنوير حيث يتنفس الصبح و تنفرج الأزمة . وثالث القصص التي قاربت الجائحة (زهور النرجس ) القصة قبل الأخيرة، حيث اختار منظورا مغايرا، له طابع إنسانيّ بطلها الحسن العامل الغريب الذي اجتاح الوباء أحلامه ؛ ففي الوقت الذي عوّل فيه على انتقاله ألى العمل في المزرعة الخضراء داهمه التنين القادم من الصين، وحاصره هاجس الموت الذي نفضه من رأسه (طبقا لما ورد في القصة) وناقش فيها موضوع الوباء وعجز العالم بدوله الكبرى عن المواجهة، وكان حلول العزلة والصمت في مجلس الأنس ويئس الابن المغترب من لقاء الأم البعيدة بعد أن استحكم الطوق و اشتد الحصار و لم يعد هناك من مناص سوى الضراغة إلى الله للخلاص من جسد الخطيئة . وفي سياق متّصل، ولكن بعيدا عن الوباء المنتشر تأتي قصة (درج الحياة) محورها الموت والحياة القوسان اللذان يحتضنان الوجود الإنساني بين كينونة مثقلة وغياب فاجع، الغياب والحضور، والعنوان دالّ على هذه الثنائية الوجوديّة الصعود والهبوط،والغياب والحضور، والاجتماع والافتراق، شيء من الغموض يغلّف الرؤية في القصة ؛ فثمّة علامات تومئ إلى دلالات تتكاثف شيئا فشيئا، فالعناصر التي تصنع فضاء القصة مكانيا واجتماعيا و نفسيا وفلسفيا وواقعيا تتشابك في نسيج متواشج، البعد الكوني الذي يتقاطع فيه الزمن مع المكان حيث الدرج و الشيب حقائق وجودية، والسماء والمطر و النجوم حقائق كونية تتداخل فيها الخطيئة و الطهر والوحشة و الآنس، والنهار و الليل وغياب الشيخ و عودته و الماضي و الحاضر والتذكر و النسيان و الوهم و الحقيقة عبر الحوارات التي تحتلّ مساحة من القصّة، وهذا يدلّ على البعد الفلسفي في هذه القصة كما في قصص المجموعة كافّة، كذلك الأسطورة التي تستدعى لتسلط الضوء على المعنى الكامن الأسطورة العابرة للزمن حيث يخرج الشيخ الغائب مع هطول المطر و أسطورة فاكهة الليل، شيء من العناء وكدّ الذهن يحتاجه المتلقّي لفض مغاليق الفلسفة التي اختصرها الكاتب في العنوان (درج الحياة) وفي قصته (جواب كسماء و أرض الأسئلة) مساحة للتأمّل و فضاء للشعر ونافذة للفكر، منذ البداية حيث التورية المكشوفة لصالح المعنى البعيد الذي يرمي إليه الكاتب، يقذف به ثم يحلق متأمّلا في دلالاته ، إنه لا يتركك بلا دليل ؛ ولكنه لا يقودك في وضح من نهار إلى حيث يريد ؛ بل يتركك تبحث عن المعنى بين الصوى التي غرسها عبر قاموس مفرداته و بعثرة مجازاته ورموزه، تعجم عيدانها فتدلّك كيف تحتطب المعنى من بين وعثاء هذه المفردات المتناثرة عبر أنساق من الحوار، يطير بك في سماء الرمز ثم يرتطم بك مع بيداء الواقع : “ ما الذي تريد اليوم عزيزي بعد أن أرسلت في حسابي البنكي عديد الأسئلة المقلقة” تنتشلك (عبارة حسابي البنكي ) بدلالتها المباشرة من غفوة المجاز الذي توشك أن تغرق فيه في قوله (ألأسئلة المقلقة) فتمضي تتلمس طريقك بين العبارتين مسائلا بقية العبارات، ثم تستوقفك الحكمة المستنبتة في نسقها المفارق، زمن البراءة وتوقيع الشيك وقت السحر (البراءة والطهر) و(حضيض المادة ) التي تهبط من العلياء إلى سفح الواقع، ويحتل الحوار مدى متسعا على حساب الحدث، ثمة وقفة تطول يتجمّد فيها السرد و ينزاح ( التاريخ ) وهو المصطلح الذي يطلقه الشكلانيون على تتابع الحدث في السرد مقابل (الخطاب) الذي يتوقف فيه سرد الأحداث ليفسح المجال أمام الحوار أو التعليق أو التأمل والوصف، وهو ما يطغى في هذه القصة التي تتمحور حول الأزمة التي هي جوهر القصة القصيرة في سياقها المتوتّر، ولكن التوتّر –هنا – من جانب واحد ؛ فقد حسمه الجانب الآخر . ثمة ثنائية مخاتلة تنطوي عليها هذه القصة منذ العنوان الأسئلة والأجوبة والقدرة والعجز : قدرة مادية وعجز معنويّ أخلاقيّ عند صاحب الأسئلة، وقدرة معنوية محسومة الجواب عند الطرف الآخر : أحدهما يرتقي إلى أعلى وآخر يهبط إلى الحضيض، وهذا يقودنا بالضرورة إلى عبارة الإهداء (إلى الصاعدين درج الحياة أنتم بين رؤيتين خذوا الأولى وارتقوا) فتعبيره في هذه القصة (بين رؤيتين سرَدَ الحكاية) توضحه عبارة الإهداء التي أشرت إليها، كما تلخّصها عبارة العنوان (جواب كسماء وأراضي الأسئلة) في قصة (رائحة العشق) لغة شاعرة تنتظر على حافة التأويل، وظلال شخوص يطغى عليها معجم تتعالق مفرداته فتلامس لغة الابتهال وترتحل في في قاموس العشق وتعانق سقف الخيال، تبدأ بعبارة مكتنزة بإيقاع منغّم وصياغة محكمة “ للفراشة حلم الصبايا وللزهر رحيق العاشقين” يليها نص محتشد بمفردات موغلة في آفاق المجاز وفضاءات البلاغة، حوارات بين ناطقين بلا لاأسماء هويتهم ألسنتهم اللاهجة بعبارات مشفّرة عن الخاتم والثعبان و الأصابع المحترقة و العشق، عليك أن تحفر في نخاع الكلمات منقّبا عن الخاتم الذي اختفى وتاه بين الزهور وعلق في خيط أسود حسبه ثعبانا ؛ ثمة كثافة رمزية تستلزم قراءة استثنائية مدجّجة بطاقة التأويل والتفسير تكشف سر (شوّافة المحبة) وتستنقذها من مربع التجريد لتستوي خلقا واضح القسمات، لقد جاءت الخاتمة وقد ناءت القصة بحمولاتها الرمزية عبر احتشاد الدلالة وتكثيفها في عبارته الأخيرة “ وأثناء سيره حاول أن يدخله في إصبعه وما إن وصل بيته استحال إلى رماد له رائحة العشق” في ( الفنار) معزوفة أخرى على وتر الحياة و الموت الحلم و اليقظة ذلك الوتر الوجودي الذي يستشيم كينونة الإنسان في لحظات يظنّها تقع في تضاريس الروح خارج الزمان والمكان تقتنص الفرح وتحتكره، وحين يستتبّ له الأمر يتبدّد الحلم وتحضر الحقيقة ؛ ومنذ العنوان تبدأ لحظة التنوير تستبق النهاية وتستحثّ الختام، فالفنار في أصل المعنى مصباح ساطع الضوء ينصب على سارية عالية لإرشاد السفن في البحر إلى مسار آمن يتجنّب مواطن الخطر ؛ وهنا تكمن المفارقة فثمة إضاءة وثمة خطر انتقال من من حالة إلى نقيضها من لحظة الابتهاج إلى سديم الكآبة و من ذروة الحضور إلى قرارة الغياب، إضاءات متبادلة في لحظات استثنائية منتخبة تتجمع في بؤرة مضيئة كاشفة. ولعلي أتفق تماما مع ما ذهب إليه الدكتور يوسف العارف الشاعر الناقد الحصيف في قراءته المتميّزة لهذه المجموعة، حيث أشار إلى خاصّية أسلوبية تدل على ذائقة نقدية رفيعة حين وصف المدرسة ينتمي إليها الدكتور صالح السهيمي في كتاباته الأولى بأنها مدرسة النص المدني التي تنقل الحكاية فيها من أفقها الشعبوي / القروي إلىالصناعة اللغوية والأسلوبية والمجاهدة الصياغية البلاغية وأنه في هذه المجموعة يؤكد تناميه الفني واستيعابه للمتغيرات الأسلوبية للكتابة السردية مشيدا ببراعة الاستهلال في مقدمات قصصه.
مشاركة :