في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.6 – ابن زيدون"يا جنة الخلد اُبدلنا بسدرتهاوالكوثر العذب.. زقوما وغسلينا"لا شيء من المبالغة والإسراف الانفعالي في بيت ابن زيدون، ذلك أن الحب الصحيح المتوهج جنة يعانق العاشقان فيها تحققا مشبعا، ويمسكان المعنى المراوغ الذي يبحثان عنه طيلة العمر. الانتقال إلى محطة الفقد والقطيعة والهجر، يعني الجحيم وأهوال العذاب، وهل من لعنة تفوق الحرمان المباغت من الجلوس قرب شاطىء الكوثر، والسقوط في قبضة زبانية يجلدون ويصبون في الحلقوم والقلب مرارات الحنظل؟.عبر ثنائية الجنة والجحيم هذه، مسلحا بالخليط المرعب من البساطة والشجن، يجسد اين زيدون تحولات كفيلة بزراعة الكوابيس السوداء، ولو أنه لم يعش في الجنة ويستمتع بعظيم عطاياها، ما تعذب على هذا النحو الذي تصطبغ به القصيدة منذ البدء إلى المنتهى.الموجع بحق، هو ذلك الاستسلام الاضطراري الذي يتجلى في الصياغة الهادئة البعيدة عن التشنج والصراخ الفج، وغاية ما يفعله ابن زيدون هو التقرير الاحتجاجي كأنه النزيف الداخلي الذي لا يُرى بالعين المجردة. موسيقى جنائزية شجنية تشّيع فقيدا عزيزا تستحيل عودته، وليس الشاعر وحده من يسير مطرقا خلف النعش المغطى بباقات الزهور الحزينة، فهو يورط القارىء معه، فلا يملك إلا أن يندمج منتشيا بعذوبة الألم النبيل.
مشاركة :