في أوروبا القرن الثالث عشر اعتاد المعزون استئجار نساء «ندّابات» يبكين الميت لإضفاء طابع الحزن على الجنازة.. حيث كن يرددن أثناء النحيب ترانيم لاتينية تقول: «بلاسيبو دومينو إن ريجيون فيفورام»، وهي ترجمة نص في العهد القديم كان يقال عند رثاء الميت، معناه «أَسْلُكُ قُدَّامَ الرَّبِّ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ».. ومع مرور الوقت، أصبح الناس يطلقون أول كلمة في العبارة - بلاسيبو - لطلب هذه الخدمة على سبيل الاختصار.. فهذا البكاء الوهمي كان يريح المعزين، رغم أنه زائف! واليوم، أصبحت كلمة «بلاسيبو» تطلق على كل علاج وهمي.. ورغم أن ذلك قد يوحي بالنصب والاحتيال فإنه أصبح شرطاً أساسياً في أي تجربة علمية.. ففي الطب لا يتم الاعتراف بالدواء الجديد إلا إذا تحسنت حالة من تلقوه، بنسبة أكبر من الأشخاص الذين تلقوا العلاج الوهمي! وفي أي تجربة محكمة يجب أن تكون هناك مجموعة «البلاسيبو» للمقارنة بها.. فالحقيقة هي أن هناك أناساً يشفون بالفعل بمجرد اعتقادهم أنهم تلقوا العلاج الصحيح، رغم أن ما تعاطوه مجرد ماء ملون أو كبسولات فارغة! كيف ذلك؟ تبدو الآلية مختلفة من حالة لأخرى.. فمثلاً الثقة والتفاؤل يعطيان شعوراً بالارتياح ويحفزان إفراز الدورفينات التي تساعد في تسكين الألم.. وربما يكون المرض أصلاً ناشئاً من ضغوط نفسية تختفي عند تلقي العلاج الذي يعتقد المرء أنه سيشفيه. ولا تزال هذه المسألة تثير جدلاً أخلاقياً في الأوساط العلمية: هل من حق الطبيب أن يعطي مريضه دواءً وهمياً إذا ما رأى ضرورة لذلك؟ هناك من يرى ذلك حلاً مثالياً في بعض الحالات ذات المنشأ النفسي.. شخص لا مشكلة جسدية لديه وقد يفيده مثل هذا الإجراء مثلاً.. حكى لي أحد الأطباء النفسيين عن مريض لا يفقه شيئاً في علم النفس، ولا يؤمن بالطب النفسي، ولا يعي إلا لغة الجن والعفاريت، كلمه عن اللا وعي والرغبات المكبوتة ليتثاءب مللاً، بينما لو كلمته عن العفريت الذي يسكنه، ويبث فيه رغبات لا يريدها، يصبح آذاناً صاغية.. هل من الأخلاقي أن يسايره الطبيب ويمرر له العلاج النفسي مرتدياً هذه العباءة الزائفة؟ هل يعطيه الدواء، قائلاً: إنه الإكسير الذي يطرد القوى الشريرة؟ إنها فلسفة يحيى حقي في رواية «قنديل أم هاشم» المثيرة للجدل.. سكان إحدى القرى يؤمنون بأن علاج كل شيء هو زيت محترق في مصباح ضريح مقدس، وضعوا قطرات منه في أعين الناس لشفائها، فذهبت بأبصارهم.. حاول الطبيب المتعلم مقاومة الخرافة فصدوه مدافعين عن عاداتهم.. فقام الطبيب - كملاذ أخير - بوضع الدواء الحقيقي في هذا المصباح، لكي ينقذ الناس من شرور معتقداتهم. فهل يندرج هذا الحل تحت إطار مخاطبة الناس على قدر عقولهم، أم أنه خيانة لقيمة التفكير العلمي؟! سؤال يطرح نفسه دائماً.. فما رأيك أنت؟
مشاركة :