بيروت رنة جوني: في عجقة الأحداث التي تعصف بالوطن العربي، ورسائل التواصل المتنوعة التي توزع يميناً وشمالاً، كان ساعي البريد أبوناصر يتنحى عن مهمته، يجلس في منزله العتيق الذي يفوق عمره ال 100 عام، يتأمل مشواره الطويل في البوسطجية التي أمضاها متنقلاً بين قرية وبلدة وحي، على دراجته النارية التي اشتراها ب2500 ليرة في ستينات القرن الماضي. أبوناصر الثمانيني ذو الشارب الكث، يعتبر البوسطجي الوحيد في جنوب لبنان، عُين عام 1964 ساعياً للبريد، بين مغترب وأهله، والأحباء، ومهندس وطبيب وسياسي وزعيم، اجتاز امتحان مجلس الخدمة المدنية، فشكل عبر عمله مسرحية مونودرامية، بطلها البوسطجي وحكايا الواقع بتجلياته الثلاثة: الغربة، والعشق، وموروثات القرى. قتلت الحداثة البوسطجي، وتحول الساعي إلى عصفور طيار، تغيرت أدواره، وأهدافه، لم يعد حامل السعادة في مظاريفه، إنما، كما يقول ناقل معاملات فقط عكس عملنا في الماضي، وحين كان له طعم خاص، يكفي أن تعيش فرحة الناس برسالة شوق انتظروها أشهراً. لم يكن البوسطجي مجرد ناقل للرسائل، بل موثق لأحداث مجتمع بحد ذاته، خلال تجواله يرصد متغيرات الواقع، يؤرخ ثقافة القرى البسيطة وعاداتها التي طواها الزمن والعصر. يقول أبوناصر كنت حين أجالس أحدهم أسمع منه حديث الأخوة التي باتت في خبر كان، للأسف سرقنا التطور من ثوبنا القديم. ثلاث سنوات أمضاها ساعي البريد، في منطقة عبيه عاليه متنقلاً على دراجة هوائية، حاملاً البسمة والأمل لأم وزوجة وأخت ينتظرن خبراً من ابن وأب غادرا إلى خلف المحيطات، كنت مصدر البسمة لكثير من العائلات، ينتظرون قدومي حاملاً مفتاح السعادة لهم، لم يمض وقت حتى انتقلت إلى بريد النبطية أصبحت ساعي بريد أكثر من 30 بلدة وقرية، أحمل رسائل الشوق إلى الضيع، أسير على دروب مواطنين يعملون بكد وشقاء: حرفيون، صناعيون، أرباب عمل، ربات منازل، أقدم مع كل مكتوب نكتة وابتسامة. كان ساعي البريد بمثابة ملهم البهجة، مع تبدل العصر انطفأ نجم واحد من أهم الوظائف التي تختلط بالناس، لم يعد أبوناصر يحمل الرسائل التي يضعها في جعبة دراجته النارية ويطير بها، لم تعد النسوة ولا كبار السن ينتظرونه ليأتي إليهم بمرسال آتٍ من بعيد، وصل بعد شهر أو شهرين، وبحسب ما يقول البوسطجي أبوناصر باتت الرسالة تصل برمشة عين والتواصل الاجتماعي سيد الساحة، تطور العصر، بات أسرع مما كنا نعيش، تحول إلى مكان واحد بين الغرب والشرق، لكنه مكان مجهول، غامض، تموت فيه المحبة، وتعلوه القسوة، وتفوح منه روائح الحقد، ونفتقد فيه للألفة التي كانت تجمعنا قديماً، كنت خلال تجوالي أقف في ساحات القرى، أجالس الكبار وأتسامر مع الصغار، أتذوق رغيف خبز الصاج الساخن الذي تخبزه نسوة الضيع، الضحكة والنكتة سمة حياتنا، لم تقتصر حياتنا على مكتوب، ورسالة وظرف مغلق، بل كانت أياماً بلون الحياة. في كنفِ الذكريات يعيش أبوناصر، متنقلاً بين متحفه الذي ضمنه موروثات الحياة الضيعوية وغرفة التبغ حيث يستريح الموتوسيكل، ومشمع النايلون الذي كان يقيه حر الصيف وبرد الشتاء، وحدها مقالات الصحف العديدة تعيد له ألق مهنته وبعضاً من مغامرات الشباب الجميل، علقها على جدار المتحف. البوسطجي جزء من تاريخ لبنان، كان صلة الوصل بين عالمين وتكوين جزء من ثقافة وتراث واقتصاد لبنان، لم يتغير الكثير في الحياة سوى تقلبات ومزاجية الناس، أما سوء الوضع الاقتصادي وملحقاته فلاتزال ذاتها مع بعض التطور المضاد، كما يحلو لأبي ناصر أن يصفها. أغرق التطور أبو شوارب اللقب المحبب إليه، في متاهات عديدة، لكنه لم ينسه رحلاته الطويلة في عمله كساعي بريد القرى، يدندن أغنية فيروز يا مرسال المراسيل ع الضيعة القريبة. يأتي بأوراق عتيقة من جعبته الماضية، يقول كنا نعمل بدوامين صباحي ومسائي تتخلله استراحة غداء، في مكتب بريد في النبطية كانت تفرز المكاتيب، ومنها تنطلق رحلتي، التي كنت أقوم بها بين أنصار والزرارية وصولاً إلى عربصاليم وجباع وغيرهما في الجنوب، إلى أن قررت شراء موتوسيكلعلى حسابي بالتقسيط، وزودته بجعبة أضع فيها المظاريف. ضحكته وتفاخره بأنه شيخ الشباب تسبقه في حديث عن مشوار تخلله الكثير من القصص، ويتذكر حين كنت أحمل رسالة لأم من ولدها المغترب، كانت تقدم لي هدية بسيطة، سكين، ليرة لبنانية وغيرها، كنت ألمس فرحة الناس، ووجعهم خاصة حين تحمل الرسالة خبراً سعيداً. ناقل السعادة والحزن، كما يسمى، يعتبر أن البوسطجية علمته قيمة الإنسانية، كيف تلملم حكايات الواقع وتنقلها بابتسامة، وتبني شبكة تواصل متينة، ليست كتلك التي يعيشها جيل اليوم مهترئة، قوامها لايك وتعليق سخيف، ويؤكد مازالت صداقاتي قائمة حتى الآن. جولات أبوناصر غالباً ما تنتهي عند تلميذ درَسه في المهنية، إذ كان مدرساً قبل أن يحصل على وظيفة برتبة بوسطجي، يقول ذات مرة أوصلت بريداً مسوكر، أي مضموناً إلى أحد الأطباء كان من بين طلابي القدماء فغمرني بحنو. لم تكن يومياته تنتهي من دون طرائف إجا البوسطجي، إجا البوسطجي، كانوا يهللون لقدومي، والهدايا كانت تنتظرني من أمهات وزوجات ينتظرنني بفارغ الصبر لأحمل لهن رسالة اطمئنان فيكرمنني بقداحة، وجزدان جلد، وسكين وغيرها. لم يتقاعس عن مهمته في توزيع الرسائل والمعاملات والقرارات الإدارية والقضائية إبان الحروب التي رافقت مشواره الذي استمر 39 عاماً، حتى أيام المطر كان يقوم بمهمته، إذ كان المشمع والجزمة رفيقتاه في رحلات المطر كان هدفي إيصال المظاريف لناس ينتظرون قدومها شهرين، لا المطر ولا القصف إبان الاحتلال حالا دون قيامي بعمل أحبه. استراح أبو ناصر من رحلاته بين القرى، بعد تقاعده، لكن رحلته في الحياة لم تنته، مازال يتابع ثقافته التي جمعها، ويتواصل مع أصدقاء القرى، روح الشباب تعبق في حياته التي يمضيها بين حقل يزرعه، ومتحفه الذي يستريح داخله من عجقة اليوم، وأحفاده الذين يروي لهم بعضاً من ذكريات بوسطجي على خط القرى، ولعل كلمته: التطور مهم، لكن القفز على الأصالة يقتل، تشكل خطاً جديداً في مستقبل الوطن الذي تحول إلى صندوق بريد ولكن لا بوسطجي أصيلاً ينقل الرسائل.
مشاركة :