الحج، كما أراه ظاهرة عمرانية إنسانية مرتبطة بمسار "زمكاني" صارم، لا يمكن تغييره، فهناك شعائر لها أوقات محددة يجب أن تقام في أماكن محددة وهي شعائر متتابعة لا يمكن تأجيل بعضها إلا نادراً وبالتالي فإن "ميكانيكية" الحج تتطلب عمارة من نوع خاص توضع فيها اعتبارات المكان والزمان كعوامل مشكلة للظاهرة ربما السؤال الذي خطر في بالي وأنا أسمع خبر التدافع الذي حدث يوم العيد في أحد الشوارع المؤدية إلى جسر الجمرات والذي نتج عنه مئات الوفيات والمصابين، هو: هل الحج بحاجة إلى عمارة؟ وأنا هنا أود أن أنبه إلى أن مفهوم "عمارة" هنا يتجاوز فكرة البناء والعمران إلى البحث في بنية الظاهرة العمرانية والإنسانية وفهم مسبباتها والآليات التي تجعل هذه الظاهرة تسير وتعمل بتناغم داخلي. وأكاد أجزم أن العمارة تعني في هذه الحالة هذا التناغم الداخلي للظاهرة التي تجعلها ظاهرة متوازنة لا تحدث فيها اضطرابات أو خلل. الحج، كما أراه ظاهرة عمرانية إنسانية مرتبطة بمسار "زمكاني" صارم، لا يمكن تغييره، فهناك شعائر لها أوقات محددة يجب أن تقام في أماكن محددة وهي شعائر متتابعة لا يمكن تأجيل بعضها إلا نادراً وبالتالي فإن "ميكانيكية" الحج تتطلب عمارة من نوع خاص توضع فيها اعتبارات المكان والزمان كعوامل مشكلة للظاهرة. لا أحد ينكر أن حادثة التدافع مؤلمة ونتائجها وخيمة، وهي قدر محتوم لكن لابد أن يكون هناك سبب ما نتج عنه هذا التدافع. أحد الزملاء يقول إنه كان من الضروري أن يكون هناك تفويج ومن الخطأ أن نجعل الحركة متصلة لأميال، لأن أي سقوط سينتج عنه مثل هذه الكارثة وهو ما حدث. عمارة الحركة هنا مهمة جداً ورغم أن جسر الجمرات صمم بعناية فائقة بحيث تكون المسارات ذات اتجاه واحد، وهو ما نتج عنه مرونة كبيرة في السنوات الفائتة ولم تحدث أي حوادث تذكر، إلا أن دراسة الحركة بعناية وإيجاد فواصل بين البشر مهم جداً حتى لا تحدث ظاهرة "الدمنو" عندما يسقط واحد يسقط الجميع. رأي الزميل كان مقنعاً، فالحركة هي أهم العناصر المؤثرة في الحج، وإدارة الحشود أو هندستها، تكاد تكون هي عنصر النجاح الأول في كل موسم حج. إحدى الرسائل التي وصلتني، كما وصلت كثيراً غيري، هي لشاهد عيان عاش زحام العيد وسقوط الضحايا، وهي رسالة منسوبة إلى (الدكتور عبدالرحمن بن الشيخ عبدالله بن جبرين) وفحوى هذه الرسالة هي أن التدافع حدث في شارع 204 وهو أحد الشوارع الوسطية في منى المؤدية لجسر الجمرات وابتداءً من تقاطع 219 وحتى جسر الملك خالد. وبعيداً عن التفاصيل ذكر شاهد العيان مجموعة ملاحظات سببت المشكلة، ابتداءً من فتح الطرق الجانبية لدخول الحجاج لهذا الطريق رغم الزحام الشديد، فدراسة الطاقة الاستيعابية لأي طريق هي مهمة أصيلة في إدارة الحج، وترك الحجاج ينتقلون من مكان لآخر دون تحكم في الطاقة الاستيعابية للمكان سينجم عنها حتماً مثل هذه الكارثة. مما زاد الطين بلة، أمران، أولهما هو وجود سيارة متوقفة في وسط الطريق 204 رغم أن هذا الطريق شريان رئيس للجمرات، والأمر الآخر هو أن حراس مخيمات الحجاج على جانبي الطريق منعت اللاجئين إليها من الدخول مما زاد من عدد الضحايا وفاقم المشكلة. يضاف إلى ذلك العربات التي سببت إعاقة للحركة وزادت من الزحام وقللت فاعلية التحكم في سلاسة الحركة في الطريق. شاهد العيان يقترح أن يكون هناك مسار خاص للعربات وأن يكون هناك بوابات ميكانيكية تقفل الطرق عند اللزوم وعند وصول أي طريق لحده الأقصى، وأرى أنها مقترحات مهمة ويجب التفكير فيها. في اعتقادي أن الدرس الأول الذي يجب أن نتعلمه من هذه الحادثة هو إعادة تخطيط منى بالكامل ووضع إطار تخطيطي حركي مبنى على تراتبية الطرق وإيجاد قناة عملاقة تقود إلى جسر الجمرات مزودة بفواصل على شكل بوابات تقفل آلياً كلما وصل الجسر حده الأقصى وتقسم القناة إلى عدة مناطق تقفل كل منطقة كلما امتلأت بحيث تنفصل بشرياً عن المنطقة التي تليها. أعتقد أننا نستطيع الاستفادة من التقنية المعاصرة لإدارة الحشود في الحج وتقليل الحوادث قدر الإمكان. التخطيط الجديد لمنى يجب أن يضع في اعتباره الطاقة الاستيعابية لمخيمات الحجاج أي أن تقسيم منى إلى عدة مناطق بأحجام طرق تتناسب مع العدد المتوقع لكل منطقة مع تحديد مسار الحركة بوضوح ليصب في قناة حركية واحدة تقود للجمرات يتم التحكم فيها والسيطرة عليها آلياً وأمنياً سيجعل من فرصة الحوادث نادرة. عمارة الحج قد تتطلب مثل هذه الخطوة ليس فقط في منى بل في جميع المشاعر، والذي آراه أن يتم تطوير مخطط شامل للمشاعر، ليس من أجل استكمال البنية التحتية وتوفير الخدمات التي يحتاجها الحجاج، وهذا أمر مهم، لكن من أجل تطوير "ذاكرة تقنية" تتحكم في إدارة الحشود في المشاعر. فمثلاً قطار المشاعر، وأنا جربته في الحج في سنته الأولى، مشروع عملاق، لكن إدارة حركة الحشود وتكدس الركاب في المحطات يشكل مظهراً فوضويًا كان يمكن تجاوزه. المشكلة تكمن في "الإدارة" وفي القدرة على التحكم في الحركة المكانية وتنظيمها. الأمر المهم هو أن حادثة التدافع يجب أن لا تمر دون حساب ودون دراسة، نحن نؤمن بالقضاء والقدر، لكن كل شيء له سبب، ومن الضروري أن نتعلم من الأخطاء، ليس كردود أفعال مستعجلة بل يجب أن تكون ردودنا عميقة ومبنية على حل المشكلة من جذورها والعمل على عدم حدوثها مستقبلاً. وأخيراً يحق لنا أن نتساءل عن "مركز أبحاث الحج" وماذا يعمل على وجه التحديد، لأن هذا المركز الذي تجاوز عمره الأربعين عاماً لا نجد له تأثيراً واضحاً، قد أكون مخطئاً لكني أسمع عن "هندسة الحركة" منذ أكثر من ربع قرن دون أن أرى شيئاً؛ وهذا مثال لما يمكن لهذا المركز تقديمه من حلول مبتكرة خصوصاً مع هذا التطور التقني الهائل. لمراسلة الكاتب: malnaim@alriyadh.net
مشاركة :