في مقال سابق منشور في أحد أعداد هذه المجلة، تناولت موضوع «الإقطاعية الصناعية» وهو ما وصلت إليه الصين بأن تكون مصنع العالم وتمسك بمفاصل التجارة العالمية، وقد كتبتُ أيضاً عن نوعين من الشركات (الشركات الصينية العالمية والشركات العالمية الصينية)، وأشرت إلى دورهما في جعل الصين مكتفيةً ذاتياً لوجود أغلب المصانع على أراضيها، وغلبة كفة الميزان التجاري لصالحها. وهذا ينقلنا إلى سؤال هام: هل عاشت الصين وضعاً مشابهاً لهذا من قبل؟ في بداية القرن التاسع عشر الميلادي، كان الاقتصاد الصيني من أقوى الاقتصادات في العالم، وكانت الإمبراطورية الصينية في وقتها تعيش حالة من الاكتفاء الذاتي، ولعل هذا أحد أهم الأسباب التي أدت إلى حرب الأفيون التي شنتها بريطانيا على الصين ودمرتها اقتصادياً واجتماعياً بحسب المؤرخين، حيث إن شركة الهند الشرقية الممثلة للتاج البريطاني في آسيا، كانت تجري مبادلاتها التجارية عن طريق المقايضة، ولكنها عندما أرادت التبادل التجاري مع الصين وجدت أن الصينين ليسوا بحاجة إلى سلعها، مما ألجأها إلى شراء المنتجات الصينية بواسطة الفضة. وهذا يشير إلى دور الدول العظمى وصعوبة قبولها الهيمنة الصينية والرغبة في التحكم بمفاصل الصناعة العالمية؛ يذكر التاريخ كيف خرج الصينيون من بعد حرب الأفيون الأولى والثانية، ودخولهم تحت ضغط القوى العظمى (المتحالفة فيما بينها) في اتفاقيات غير متكافئة، إذ أضحت الصين شبه مستعمرة وشبه إقطاعية في الحقبة التي يسميها الصينيون (قرن الإذلال). ما جعل الصينين يعيشون ويلات هذا القرن هو التحالفات التي عُقدت بين القوى الغربية وروسيا واليابان لأجل اقتسام الموارد الصينية، بالإضافة إلى فشل الصينيين في إتقان لعبة التحالفات، وهذه سمة لا يبدو أن الصين تخلصت منها حتى اليوم، إذ مازالت الصين تبني تحالفاتها تحت مسمى (شراكات إستراتيجية)، غير مكلفة وغير ملزمة لها أو لشركائها. في عام 2020م، ومع وجود اتفاقية المرحلة الأولى بين أمريكا والصين التي جاءت بعد عامين من الحرب التجارية، استمر الصراع بينهما على إثر جائحة كورونا وتصاعد الصراع بينهما ليصل إلى ما يشبه الحرب الباردة، ووسعت الولايات المتحدة الأمريكية دائرة هذا الصراع بوصفه حرباً بين (معسكر غربي بقيادتها ومعسكر شرقي بقيادة الصين). الصين تعيش وضعاً مشابهاً تقريباً لما عاشته سابقاً من حيث ميل كفة الميزان التجاري لصالحها، فحجم الفائض التجاري بين الصين وأمريكا يزداد يوماً بعد يوم، وهو من أهم الأسباب التي أدت إلى الحرب التجارية بين أقوى اقتصادين عالميين، وهذه الحرب التجارية حَدَّت من الاستثمارات الصينية المباشرة في الغرب بشكل عام. وبالرغم من أن الاستثمارات الخارجية للصين قد كُبلت في أمريكا وأوروبا على وجه الخصوص، إلا أنها ارتفعت في دول الآسيان التي أصبحت أكثر المناطق الجاذبة للاستثمارات الصينية في عام 2020م. مع تولي بايدن لدفة الرئاسة أضحى الهجوم على الدول التي لا تنتمي للمعسكر الغربي أكثر حدة، وارتفع سقف الدفاع عن الأفكار الغربية ليشمل دولاً لطالما كانت من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين. في المقابل تسعى الدبلوماسية الصينية إلى تعميق العلاقات بشكل أكبر مع الدول النامية، من خلال تكثيف الزيارات بينها وبين هذه الدول، وإمدادها بالمساعدات في أثناء الجوائح والكوارث، كما هو الحال مع جائحة كورونا، بل عملت الصين على مواءمة اللقاحات الصينية لتلك الدول، وإدخالها في عمليات صنع اللقاحات والتجارب السريرية للمرحلة الثالثة. وهذا التوجه ظهر بشكل واضح خلال زيارة وزير الخارجية الصيني الأخيرة إلى الشرق الأوسط، بعد اجتماع ألاسكا بين الصينين والأمريكيين، والذي أظهر حدةً في النقاش بين الجانبين، تلاه اجتماع الصينين والروس في الصين. الدول الفاعلة الإقليمية في الشرق الأوسط تضررت من المواقف الأمريكية الأخيرة، والتي تبدو كأنها تنسحب بشكل تدريجي من المنطقة، لذا فإن خيار تحركها تجاه الصين يبدو خياراً لا يخلو من المعقولية. لهذه الدول طموحات صناعية ومعرفية، وهي في سعي دائم إلى التنمية، وتبدو تجربة الصين الفريدة في هذا الشأن جاذبة لها، ولكن الصينيين لم يحدث أن انعكس أثر تجاربهم على حلفائهم من قبل، وقد تقف وراء ذلك عدة أسباب من أهمها عدم ميل الصينيين إلى بناء تحالفات دولية إستراتيجية، إلى جانب تورطها في الدخول في شراكات مع دول تعاني من صعوبات العزل الدولي، حتى لو أثر ذلك على مصالحها مع دول أكثر جدوى وانفتاحاً. بالنسبة للصين يعد الشرق الأوسط من أهم مصادر النفط، إذ تبلغ واردات الصين النفطية من الشرق الأوسط نحو 42% من حجم وارداتها، فمع زيادة الاقتصاد الصيني يزداد حجم احتياجها إلى مصادر الطاقة، وهذا ما يدفع الصين إلى تفعيل دورها في المنطقة بشكل أكبر مما هو عليه لتأمين مصادر طاقتها. لذلك فإن ما أذهب إليه هو أن الصين متى ما أرادت تكوين جبهة دولية قوية، فإن ذلك يقتضي دعمها للدول النامية في الشرق الأوسط، نحو تحقيق طموحاتها التنموية، وأن تكون أكثر ذكاءً في اختيار وجهات تدفق استثماراتها الخارجية، حيث يمكنها من خلال إدارة ذلك التدفق تشكيل منطقة مستقرة متحالفة معها ضد القوى الغربية التي لم تعد تحظي بثقة المنطقة كما كان الأمر من قبل. * باحث في الشؤون الصينية مركز البحوث والتواصل المعرفي
مشاركة :