في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت. 45 – الحطيئة " أرى لي وجهًا شوه الله خلقه فقُبّح من وجهٍ وقُبّح حامله " لا أحد من معاصري الحطيئة يسلم من لسانه السليط اللاذع، وشعره المقذع في هجاء أبيه وأمه مشهور شائع يُضرب به المثل، فليس مستغربا أن يهجو الرجل نفسه ويسرف في الإدانة القاسية، متوجا ببيته ذائع الصيت رحلة طويلة شاقة مع المعاناة والقهر والحصار الخانق الذي يدفعه إلى احتراف السب والشتم بلا ضوابط. لا يمكن استيعاب بيت الحطيئة وفهمه بمعزل عن الإحاطة الواعية بحياة الشاعر، حيث الاضطراب والخلل منذ ميلاده. إنه دعيّ بلا نسب، ونشأته قوامها الحرمان والفقر المدقع. وحيد بلا عصبية قبلية تسانده، في مجتمع يعلي من شأن الأنساب، وفضلا عن ذلك فإنه قبيح منفر الشكل، وبذلك تكتمل منظومة الاغتراب والإحباط والنزعة العدائية المبررة. الحطيئة هجّاء عظيم، وشعره شاهد على عصر يتفنن في ممارسة القهر الذي ترضخ له الأغلبية الساحقة من البؤساء. لا يشذ عن قاعدة الإذعان إلا القلة القليلة من أمثال الشاعر المتمرد، قبل الإسلام وبعده. عندما يتخوف من العقاب جراء هجاء الآخرين، يتوجه إلى نفسه بالسهام، متيقنا أن أحدا لن يغضب له أو ينشغل بأمره. في كل زمان ومكان، من عصر الحطيئة إلى أيامنا هذه، يطل هذا النمط الفريد من المبدعين الموهوبين التعساء، الشهداء الشهود، مثل فاكهة تكمن لذتها في مرارتها.
مشاركة :