في الثاني من تشرين الأول أكتوبر 2015، قال الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إنه "لن يحوّل سورية إلى ساحة حرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا. هذا ليس نوعاً من التنافس بين قوى عظمى على رقعة شطرنج". جاء هذا التصريح بعد ثلاثة أيام على بدء روسيا حملتها الجوية الواسعة في سورية. إننا بصدد مرحلة مفصلية من مسار الأزمة السورية، بدت فيها هذه الأزمة وقد تعدت بُعديها المحلي والإقليمي لتلامس تفاعلات النظام الدولي على مستوى القمة، وتلقي عليه بمزيد من الضغوط والتحديات. هنا، بدت السياسة الأميركية أمام امتحان القدرة على إدامة مقاربتها، القاضية بعدم رفع سقف التوّرط في الأزمة، وتجنب الانجرار إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط، لن تأتي سوى بمزيد من التعقيدات الأمنية والجيوسياسية، وبالضرورة الإنسانية أيضاً. إن الولايات المتحدة حرصت على التأكيد على استمرار دورها في أوروبا والشرق الأوسط، وأن هذا الدور جزء أصيل من مقاربة أمنها القومي. هذه الرؤية، تحكم اليوم سياسة الرئيس أوباما حيال الأزمة السورية. إنها فلسفة الانخراط الحذر، الذي يتفادى الانجرار إلى خيارات تصعيدية من شأنها إشعال حرب جديدة في هذه المنطقة الملتهبة من العالم وقد كان أحد التحوّلات الرئيسية في السياسة الأميركية تجاه سورية قد تجلى في العام 2014، عندما قررت إدارة أوباما تشكيل تحالف لشن غارات جوية على مواقع تنظيم "داعش" في الأراضي السورية (إضافة للأراضي العراقية)، وحيث باتت تشارك في هذا الائتلاف نحو ستين دولة. وفي أيلول سبتمبر 2013، كادت الولايات المتحدة أن تذهب نحو خيار عسكري ضد بشار الأسد، إلا أن اتفاقاً أميركياً روسياً، جرى توقيعه في الرابع عشر من ذلك الشهر، أبعد شبح الحرب ومخاطرها الجمة التي بدت بادية للعيان. وقد قضى الاتفاق في المقابل بتخلص دمشق من مخزونها الكيميائي. وهو مخزون أصبح قديماً في غالبيته العظمى. وقال وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إن هذا الاتفاق قد يكون "أول خطوة ملموسة" نحو التسوية السياسية النهائية. وأشار هذا التصريح مبدئياً إلى أن الولايات المتحدة كانت في طريقها لمنح مزيد من الأولوية للمسار الدبلوماسي. وقد قرأت الأطراف والقوى المختلفة الاتفاق الأميركي الروسي على نحو متباين ولم تكن هناك قراءة واحدة مجمعاً عليها حتى بين الأميركيين والروس. على صعيد النقاش الأميركي ذاته، واجه بحث الإدارة الأميركية للخيار العسكري معضلتين رئيسيتين: الأولى حساسية الجمهور الأميركي من التورط في حرب جديدة. والثانية، غياب اليقين حول القوة المطلوب استخدامها لتحقيق نتائج إستراتيجية أو كبيرة بثمن سياسي مقبول. وبموازاة ذلك، كانت هناك خشية لدى الإدارة من أن ضربة عابرة قد تجعل الأمور أكثر سوءاً وتعقيداً. باختصار، كانت المعضلة الماثلة أمام البيت الأبيض حينها تتمثل في بلورة إستراتيجية تؤلف بين الأهداف السياسية بعيدة المدى، والإجراءات العسكرية المزمع اعتمادها. ولقد جادل بعض المنظرين من أن استخدام القوة المحدودة يُمكن أن يكون فعالاً في بعث إشارة للطرف المعني، مفادها أنه سوف يخسر المزيد في التصعيد اللاحق إذا لم يرضخ. هذه الفكرة التي تبدو بديهية بعض الشيء لم يُؤخذ بها في كثير من الحالات في زمن الحرب الفعلية، كما أظهر بحث لأستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو البروفسور روبرت بيب. ولذا، كان من الصعب من وجهة نظر البعض الذهاب إلى المواجهة استناداً إليها. وعلى صعيد ثالث، جادل بعض الساسة والمفكرين الأميركيين بأن الأمر الأكثر أهمية ليس القول ما إذا كان الهجوم هو الشيء الذي ينبغي عمله، بل أين يقع ذلك في منظور القانون الدولي. وطوال عامي 2002 و2003، جادلت إدارة الرئيس جورج بوش الابن بأن انتهاكات العراق لقرارات الأمم المتحدة الخاصة بالتفتيش عن أسلحته غير التقليدية تقدم مسوغاً قانونياً لتوجيه ضربة عسكرية إليه، إلا أن مجلس الأمن الدولي لم يصدر تفويضاً بذلك. وهذا الجدال حمل بعض التشابه مع معضلة التدخل في كوسوفو عام 1998 الذي اضطلع به حلف شمال الأطلسي (الناتو)، دون تفويض من الأمم المتحدة، حيث اتهم نظام بلغراد بانتهاك قرارات مجلس الأمن. أما في حالة سورية فلم تكن هناك مطالب محددة من هذا المجلس يُمكن الرجوع إليها والبناء عليها حتى من دون تفويض باللجوء إلى القوة. على صعيد رابع، دار نقاش، لا يقل أهمية عن سابقه، ومفاده هل العمل العسكري يُعد وسيلة ملائمة لحماية السكان المدنيين ما دام هدف السياسة في نهاية المطاف هو حمايتهم. وهذه مسألة مختلفة عما إذا كان هناك ما يبرر التدخل من عدمه. على مستوى الحيثيات الأخرى لخيار التدخل العسكري، ألمحت قيادات عسكرية في رسائل إلى زعماء الكونغرس بأن التدخل في سورية قد يكون له تأثير مرحلي فحسب. أما أعضاء الكونغرس أنفسهم فأشاروا إلى القلق من أنْ تُقدم واشنطن مساعدة غير مقصودة للإسلاميين. ولكن حتى في حال التدخل، فإن السؤال التالي الذي فرض نفسه على الأميركيين هو ما إذا كان هناك أي شيء يُمكن للولايات المتحدة القيام به لتغيير مسار الأحداث على الأرض. وفي الأصل، فإن خيار المقاربات الدبلوماسية ينسجم مع رؤية الرئيس أوباما لمبدأ التعددية في العمل الدولي. ولنتذكر أيضاً أن أوباما انتخب لأول مرة بناءً على وعده للشعب الأميركي بالسلام، وإعادة الجنود للوطن، والتصدي للتحديات الاقتصادية التي أفرزتها سنوات الحرب. وفي سياق هذه الرؤية أيضاً رفضت إدارة الرئيس أوباما اعتماد مقاربات عسكرية من قبيل فرض منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة، إدراكاً منها بأن ذلك لن يكون في مدلوله العملي سوى الخطوة الأولى نحو التورط في حرب جديدة. إن فرض منطقة حظر جوي في أي رقعة من العالم، يعني بالمفهوم العسكري منظومة واسعة من الأعمال الحربية. إن ذلك ليس سوى توصيف آخر للحرب. أما إقامة منطقة عازلة فهو يعني منظومة مضاعفة من الإجراءات الحربية. وبالنسبة لسورية، فإن فكرة المنطقة العازلة قد جرى التداول بشأنها لأول مرة في العام 2012، وكان الاقتراح حينها يشير إلى منطقة إعزاز في الشمال السوري. وفي العام 2013، طرحت إسرائيل فكرة مماثلة، داعية إلى تطبيقها على شريط طولي يقع في الجزء المحرر من الجولان السوري المحتل. وعلى الرغم من ذلك، لم يذهب الإسرائيليون كثيراً خلف هذه الفكرة، بسبب نصائح قيل إنها وصلتهم من دول غربية مختلفة. وكذلك نتيجة لقناعتهم بأن هذا المسار قد يجلب عليهم ويلات، وقد ينتهي بحرب غير محسوبة العواقب. ومن بديهيات الحياة أن المقدمات الخاطئة لن تأتي بنتائج صائبة أو مجدية. وفي هذه المرحلة، فإن الحديث عن منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة قد يعني الانزلاق إلى مواجهة مع القوة الجوية الروسية، ودفاعات الروس، التي قاموا بنصبها في مناطق مختلفة من البلاد. ولا يبدو أن هناك أحداً بصدد فتح مواجهة عسكرية مع روسيا. وهذه قناعة الجميع. وبالعودة للمقاربات الأميركية ذاتها، فقد حكم السياسة الخارجية الأميركية تقليدياً اتجاهان رئيسيان، تمثل الأول في شعار "أميركا أولاً"، والثاني في مبادئ الرئيس ويلسون الأربعة عشر. على خلفية الشعار الأول، سارعت الولايات المتحدة، فور اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914، إلى إعلان حيادها. بيد أنها أقدمت على التدخل في هذه الحرب عام 1918، لتقرر في سياق تدخلها وانتصارها "أخذ زمام قيادة العالم عامة، وأوروبا خاصة". وقد كان هذا التدخل ترجمة للشعار الثاني، أي مبادئ ويلسون كذلك، تم التعبير عن هذين الاتجاهين أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث لم تعلن الولايات المتحدة دخولها الحرب إلا بعد الهجوم الياباني على قاعدة "بيرل هاربور"، مما أعطى القيادة الأميركية إمكانية الحصول على تأييد الرأي العام، الذي كان معارضاً في البداية للحرب، طالما أنها ظلت بعيدة عن البيت الأميركي وشهدت الخيارات الخارجية للولايات المتحدة ثلاثة تحوّلات رئيسية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، فبعد تلك الحرب وضعت أوروبا في قمة أولويات الأمن القومي الأميركي. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي انتقل التركيز على منطقة الشرق الأوسط، مدعوماً بالغزو العراقي للكويت. وشهد العقد التالي تزايد التورط الأميركي في هذا الشرق، وبلغ ذروته بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر عام 2001، وحرب العراق عام 2003. الموجة الرئيسة الثالثة من التحوّلات، أتت بعد الانسحاب الأميركي من العراق، إذ جرى وضع أوروبا والشرق الأوسط في مكان أبعد ضمن دائرة الاهتمامات الأميركية، لمصلحة ما عرف "بحقبة آسيا"، التي قصد بها تركيز الاهتمام الأميركي على منطقتي آسيا الباسفيك والإقيانوس، إضافة للهند. وعلى الرغم من ذلك، فإن الولايات المتحدة حرصت على التأكيد على استمرار دورها في أوروبا والشرق الأوسط، وأن هذا الدور جزء أصيل من مقاربة أمنها القومي. هذه الرؤية، تحكم اليوم سياسة الرئيس أوباما حيال الأزمة السورية. إنها فلسفة الانخراط الحذر، الذي يتفادى الانجرار إلى خيارات تصعيدية من شأنها إشعال حرب جديدة في هذه المنطقة الملتهبة من العالم.
مشاركة :