كيف يُمكننا تعريف السياسة اليابانية تجاه الأزمة في سورية؟ ما هي المحددات المرجعية لهذه السياسة؟ وهل ثمة خصوصية يابانية؟ خلافاً لما قد يكون الباحث قد اعتاد عليه في طريقة استشراف المواقف، تبدو خلفيات الموقف الياباني من الأحداث في سورية وكأنها تترجم تلقائياً فعلاً سيقع في الغد. إن السياق المتحوّل للسياسة اليابانية يحمل اليوم مغزى تاريخياً، سيكتب عنه المؤرخون الشيء الكثير. وبين أمور عديدة يُمكن للباحث الوقوف عليها، في سياق هذا التحوّل، اعتمدت الحكومة اليابانية، في الرابع عشر من أيار/ مايو 2015، قانوناً يسمح لأول، مرة منذ الحرب العالمية الثانية، للجنود اليابانيين بالدفاع عن حلفائهم الأجانب. وقد صوّت البرلمان على هذا المشروع في 19 أيلول/ سبتمبر، ليصبح قانوناً نافذاً. وهذا يعني أن اليابان يُمكن أن تشارك مستقبلاً في أية عمليات حربية خارجية، كتلك الدائرة حالياً في الشرق الأوسط، وتحديداً في سورية والعراق. إن السياسة اليابانية سوف تعزز خصوصيتها في الوقت الذي تستطيع فيه إدامة وتأكيد مقاربتها السلمية الخالصة للأزمة السورية، ورفضها الخيارات الأمنية الضارة، وتأكيد خطابها الذي نادت به منذ البدء، والقائل بجلوس السوريين سوية لبحث الواقع والمستقبل، دون ضغوط أو إملاءات أجنبية على مستوى العلاقات اليابانية - السورية، ثمة خصوصية واضحة، يُمكن رؤيتها في المسار التاريخي لهذه العلاقات، وذلك على الرغم من طابعها العام، وتوازي بُعدها الإقليمي مع سياقها المحلي. لا وجود لتحالفات استراتيجية. وليست هناك من موارد كبرى ترتكز عليها الروابط الثنائية أو تتأثر بها. هناك دور إقليمي محوري، ومكانة جيوسياسية خاصة، تتمتع بها الدولة السورية بحكم الجغرافيا، ومعطيات البيئة الاستراتيجية السائدة اليوم، كما بالأمس. هذه الحيثيات، دفعت تقليدياً العديد من الدول لنسج علاقات متقدمة مع دمشق، حرصاً منها على أخذ دور في معادلات المنطقة. وهذا ينطبق بشكل خاص على الدول الكبرى، بما في ذلك اليابان. وعلى نحو خاص، تزايد الاهتمام الياباني بسورية في الفترة التالية لحرب الخليج الثانية، وذهب اليابانيون لدمشق مقدمين العديد من الهبات والمنح، التي شملت قطاعات التعليم والزراعة والري والكهرباء. وربما تكون سورية واحدة من أكثر دول الشرق الأوسط على مستوى تلقي المنح اليابانية، على الرغم من غياب الاستثمارات المشتركة، وعدم وجود جالية كبيرة في أي من البلدين. كما أن التبادل التجاري بينهما متواضع نسبياً. وربما يفاجأ المرء إذا علم أن حوالي 30% من قدرة توليد الطاقة الكهربائية في سورية هي نتيجة لمنح ومساعدات يابانية. كذلك، ساعدت طوكيو دمشق بشكل مكثف في القطاعات المتعلقة بالمياه، مثل الري وإدارة الموارد المائية، علماً بأن سورية قد شيدت، على مدى العقود الخمسة الماضية، ما يُمكن اعتباره واحدا من أكبر شبكات الري الزراعي في الشرق الأوسط، بل والعالم عامة. على صعيد العلاقات السياسية، لم يخلق التباين الأيديولوجي تأثيراً يذكر على هذه العلاقات. كما أنها لم تتأثر بالتوترات طويلة الأمد في الروابط السورية الغربية، وبالعلاقة الصراعية القائمة بين دمشق وتل أبيب. هذه خاصية فريدة في العلاقات السورية - اليابانية، وميزة مهمة من ميزاتها. وبعد ذلك، فإن السؤال هو: كيف استقبلت اليابان تطوّرات الأحداث في سورية، اعتباراً من آذار/ مارس 2011؟ لقد سارعت الحكومة اليابانية للدعوة إلى نبذ مظاهر العنف، والجلوس إلى طاولة الحوار، واعتماد الحل السياسي، وعدم عسكرة الأزمة. وكان الخطاب الياباني قريباً، إلى حد بعيد، من خطابات مماثلة، صدرت في وقت متزامن تقريباً، في دول آسيوية وغربية عديدة. وعلى الرغم من ذلك، أخذت الأزمة السورية ترمي بثقلها على الدبلوماسية اليابانية، على نحو لم تعهده في أي من أزمات المنطقة. كما أن الرأي العام الياباني بدا منقسماً حيال هذ الأزمة على نحو كبير، على الرغم من أن اليابانيين عامة من دعاة التسوية السياسية حصراً. وبعد عام على اندلاع الأحداث، قررت الخارجية اليابانية إغلاق سفارتها في سورية "مؤقتاً" بسبب الوضع الأمني. وجاء ذلك بعد أن طلبت من رعاياها عدم السفر إلى هناك. وفي نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، احتضنت طوكيو الاجتماع الخامس لما يُعرف ب "مجموعة العمل الدولي لأصدقاء الشعب السوري حول العقوبات"، الذي عقد للمرة الأولى في قارة آسيا. بيد أن الخطاب الياباني حافظ على خصوصيته، على الرغم من هذه الاستضافة. وفي 21 كانون الأول/ ديسمبر 2012، تبنت الحكومة اليابانية قراراً يقضي بسحب جنودها من الجولان السوري المحتل. وأشارت في بيان إلى: "أن الوضع الأمني في المنطقة جعل من الصعب الاستمرار في القيام بعمليات مهمة". وفي 15 شباط/ فبراير 2013، بدأت اليابان فعلاً في سحب الدفعة الأولى من هؤلاء الجنود، الذين كانوا ضمن قوة حفظ السلام الدولية، المعروفة ب"قوة مراقبة فض الاشتباك" (الأندوف). وكانت تلك هي المرة الأولى التي تنسحب فيها قوات الدفاع الذاتي اليابانية من عمليات حفظ السلام الأممية لاعتبارات أمنية. وكان عدد أفراد البعثة اليابانية في الجولان المحتل يبلغ 47 فرداً، يمارسون مهام لوجستية. وقد أنهوا ما كان أطول مهمة حفظ سلام تشارك فيها اليابان في الخارج، حيث دامت سبعة عشر عاماً. وبعد سحب القوات، وإغلاق السفارة واستضافة اجتماع معارض، كيف أمكن قراءة موقف طوكيو؟ لم يبتعد الموقف الياباني كثيراً عن أصوله التي بدا عليها في مطلع الأزمة. لم يسند اليابانيون قرار إغلاق السفارة إلى موقف سياسي من الدولة السورية، بل أعلنوا عن "حيثيات" و"اعتبارات" أمنية. ووفقاً للمنطق ذاته، جاء قرار سحب أفراد بعثتهم من قوة حفظ السلام في الجولان المحتل. وعندما استضافوا اجتماعاً معارضاً لم يطرحوا ما يشير إلى تغيير في موقفهم الداعي لاعتماد منطق التسوية السلمية، والابتعاد عن الخيارات الأمنية، التي ثبت عقمها وضررها. إن ما يُمكن اعتبارها استمرارية في الموقف الياباني بدت أكثر وضوحاً في كلمة وزير الخارجية، فوميو كيشيدا، خلال مؤتمر جنيف الثاني، في 22 كانون الثاني/ يناير2014، حيث طالب دول العالم بممارسة "أقصى ما لديها من تأثير على الأطراف المعنية" لوقف العنف بشكل فوري. وأكد كيشيدا على أنه لن يكون هناك استقرار في الوضع السوري دون تنفيذ متماسك لبيان جنيف. وأن "المطلوب لاستعادة سورية جميلة هو الحوار وليس الصراع على السلطة". بعد ذلك كله، هل ثمة خصوصية يابانية على مستوى مقاربة الأزمة السورية؟ أجل، هكذا يُمكننا القول. هناك نسق مستقر، طويل الأمد، حكم العلاقات اليابانية - السورية، سمته الحرص على إدامة الحضور السياسي والاقتصادي، بل وحتى في ميادين الثقافة والتعليم، حيث دخلت المشروعات اليابانية جامعات سورية ومعاهدها. وهذه ليست مصلحة سورية بحتة، بل يابانية أيضاً، دون ريب. واليابانيون حريصون اليوم على عدم إضاعة هذا المناخ المثمر أو التفريط به. أو على الأقل هكذا يُمكن للباحث الاستنتاج، استناداً لما تكتبه الصحافة اليابانية، ويقوله المحللون اليابانيون. وربما من المفيد أيضاً أن نشير هنا إلى أنه في السنوات القليلة السابقة للأزمة، دخل البلدان فيما يشبه السباق مع الزمن من أجل تطوير تفاعلاتهما المشتركة، وتبادلا عدداً كبيراً من الزيارات، التي جاءت في غالبيتها مدنية الطابع. بالتوازي مع هذا السياق الثنائي، ثمة إدراك لدى طوكيو بأن البيئة الجيوسياسية الراهنة للشرق الأوسط تتسم بقدر كبير من السيولة، وإن الرهان على استقرار هذه المنطقة لا يستقيم من دون سورية موحدة ومستقرة. وهذه حاجة يابانية، كما هي دولية عامة. وبعد التعديلات الأخيرة في السياسة الأمنية اليابانية، طرح المحللون اليابانيون سؤالاً مفاده: هل تكون هذه التعديلات مقدمة للمشاركة في العمليات الحربية (الحملة الجوية) في سورية؟ على النحو الذي يُمكننا استنتاجه مبدئياً، فإن اليابان ربما تحذو حذو ألمانيا، وتقرر المشاركة لوجستياً في هذه العمليات. هذا السؤال مطروح الآن بقوة في الصحافة اليابانية. والإجابة عنه تعتمد على منظومة حسابات طويلة ومعقدة، تتداخل اعتباراتها المحلية مع أبعادها الخارجية. إن الاتجاه القومي في اليابان هو الأب الروحي لمقاربة الدور الأمني الخارجي، بيد أن غالبية كبرى من الرأي العام تبدو حذرة إلى حد كبير من هذه التوجهات. وقد شهدت مدن يابانية كبرى مظاهرات معارضة لتعديلات السياسة الأمنية، ومحذرة من الذهاب بعيداً في الرهان عليها. وأياً يكن الأمر، سواء ذهبت اليابان لخيار الدعم اللوجستي للعمليات الحربية في الشرق الأوسط أم لم تذهب، فإن دورها الرئيسي في المقاربات الدولية الخاصة بالأزمة السورية سيبقى في الغالب ذا طابع دبلوماسي، وذلك بموازاة ما تقدمه حالياً من مساعدات إنسانية وإغاثية للنازحين في دول الجوار السوري. إن السياسة اليابانية سوف تعزز خصوصيتها في الوقت الذي تستطيع فيه إدامة وتأكيد مقاربتها السلمية الخالصة للأزمة السورية، ورفضها الخيارات الأمنية الضارة، وتأكيد خطابها الذي نادت به منذ البدء، والقائل بجلوس السوريين سوية لبحث الواقع والمستقبل، دون ضغوط أو إملاءات أجنبية.
مشاركة :