يشتكي بعض الذين نلتقيهم من حين لآخر من المحسوبين على المعارضة، مما يسمونه (انسداد الأفق السياسي في ظل غياب الحوار)، ويلمز بعضهم بنوع من التشفي الساذج الى الأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة التي تمر بها البلاد، ويعيدونها الى حالة (الجمود السياسي)!! ويؤكدون أن الحل الوحيد (للأزمة السياسية والاقتصادية) هو العودة الى الحوار وحل مخلفات ازمة 2011م، وهذا كلام يبدو للوهلة الأولى (باستثناء نغمة التشفي) مفهوما، ولكنه يخفي وراءه مغالطات على الصعيدين التاريخي والسياسي من بينها على الأقل: - أن الحوار كان دائما موجوداً وابوابه كانت مشرعة، ولكن - كانت المعارضة تتهرب من الدخول فيه أو مواصلته عندما بدأ بل كانت تتغيب عن جلساته لأنها كانت تتخوف من النتائج التي قد تترتب عن التوافق ضمن طاولة الحوار. - أن المعارضة لم تكن ترغب في (حوار) وانما تطالب بـ (تفاوض) مع السلطة، وحتى عندما قبلت بدخول جولة حوار كانت تطالب بالتحول من الحوار إلى التفاوض، لأن الحوار يتطلب مشاركة كافة الأطراف ذات العلاقة بمصير الإصلاح السياسي، في حين أن ما كانت تركز عليه المعارضة هو التفاوض بينها وبين الحكم مباشرة حول ما تسميه عملية سياسية عاجلة وسريعة تقبل في نهايتها السلطة البرنامج السياسي للمعارضة في مجمله، ويمكن التفاوض حول بعض التفاصيل والإجراءات والجدولة التنفيذية. (وهذا مدار التفاوض)، والتفاوض يستدعي الوسطاء بالضرورة عند الاختلاف. - أن المعارضة كانت ترفض مبدأ التوافق الوطني، ولذلك انسحبت من الحوارات، لأن مع التوافق يستحيل تمرير أي قرار دون موافقة كافة الأطراف (فهذا الحل يخيفها لأنه لا يحقق أهدافها كاملة). ولذلك رغبت في خوض عملية تفاوضية تنفرد فيها بالسلطة، مستغلة الأوضاع الدولية والإقليمية الحالية لاستثمارها لصالحها، مع تغييب دور بقية قوى المجتمع السياسي. - رفضت المعارضة الإقرار بوجود ثوابت ميثاق العمل الوطني وما انبثق عنه من دستور ومنظومة تشريعية ومن مؤسسات، وخاصة ما يتعلق بشرعية الحكم وهوية البحرين ووحدة شعبها. وكبديل عن ذلك تعمل المعارضة على الترويج لما يمكن أن نسميه بـ ميثاق جديد أو اتفاق جديد يعرض للاستفتاء ليكرس شرعية جديدة تكون المعارضة قد فرضتها وكرستها عمليا.(وقد سبق للمعارضة التعبير عن ذلك صراحة خلال جولات الحوار)، وفي الخلاصة فإنها تريد: تريد المعارضة إعادة بناء منظومة سياسية وتشريعية تؤول إلى تحكمها في مفاصل السلطة وخاصة تقليص الصوت الاخر (ليتحول إلى أقلية غير مؤثرة). هذا لمجرد التذكير فقط. لان حبر التاريخ القريب لم يجف بعد. ومع ذلك يجب ان نعترف أن الحوار - في جميع الأحوال - يبقى أفضل من اللاحوار طالما أننا نستحضر الثوابت والحقائق دون تزييف أو خداع، ومن ذلك ان الدولة، وخلال السنوات الماضية، وفي ظل مشروع الإصلاح السياسي، قد أسهمت بشكل ملموس في اختصار المسافة نحو الحوار الوطني، ضمن أفق التدرج الذي يراعي الابتعاد عن القفزات في المجهول، حيث فتح المشروع في أكثر من محطة الطريق نحو الحوار الوطني، من خلال فتح صفحة جديدة، في كل مرة تتراكم فيه الأمور وتحتاج إلى مخرج، بما أسهم دوماً في تعزيز الثقة وإفساح المجال أمام أبناء الوطن جميعا للمساهمة في مسيرة التنمية والبناء، وكان على القوى الوطنية، وخاصة ذات الوزن في التأثير على الجمهور، والممثلة في البرلمان أن تضطلع بدور حيوي في البناء الديمقراطي والانتقال بالحوار نحو أفق التقدم نحو الاستحقاقات الديمقراطية العملية وتجسيم التطلعات أو ما أمكن منها في كل مرحلة.. فمن هو الذي يرفض الحوار إذن؟؟ المشكلة هي أن كثيرا ممن يرفعون شعار الحوار وإنما يقصدون به فرض أجندة مطالبات مسبقة على السلطة ان تستجيب لها، وهذا أمر لا يخلو من تبسيط للشأن السياسي ومنطقه الناظم له، فالحوار يكون أخذا وعطاء بمقدار الظروف المحيطة والتوازنات والإمكانيات. وانما يقصدون به تحقيق برنامجهم السياسي حرفياً. إن القوى السياسية الرئيسة والمؤثرة كانت ممثلة في البرلمان (قبل الازمة)، وبعض القوى الأخرى كانت ليست ببعيدة عنه، وعن منطق الوصول إليه، والعمل من خلال آلياته، ولذلك فان هذا الفضاء المؤسسي كان أفضل مكان للحوار المنظم وللعمل على وفي هذا الفضاء الدستوري كان يمكن ان يتم احتضان مثل هذا الحوار بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، تعاوناً وتجاذباً ونقاشاً وتفاوضاً وتواصلاً ورقابة ومحاسبة وتطويرا للحياة السياسية ضمن أفق وطني حقيقي وجاد للدفع بالتجربة الديمقراطية نحو أفق أوسع وإن تدريجيا. وهذا الأمر يتطلب موقفاً صريحاً من المعارضة إذا ما كانت حقيقة تبحث عن الحوار وترغب في الخروج من الوضع الراهن، من الثوابت الوطنية ومن ميثاق العمل الوطني باعتباره المرجعية الأساسية الجامعة، ألا يجب استعادة القوى القادرة والمطالبة بالحوار إلى البرلمان ليكون فضاء الحوار الوطني والإطار المناسب لاستكمال الحوار وإحداث التطوير الدستوري والسياسي المنشود ضمن إطار التوافق الوطني. إن النظام المدني الديمقراطي وحده هو الذي يفسح المجال أمام صراع الأفكار والاتجاهات السياسية الوطنية التي يهمها استقرار البلد ونمائه بشكل سلمي وديمقراطي وحر يقوم على الحوار الفكري العقلاني، بعكس الخيار الطائفي الذي نما وتطور بالتوازي مع الأحداث التي عشنا بعض فصولها المؤسفة والتي كانت اقرب إلى انفجار لرؤية طائفية وقفت وراء منع التطور الاجتماعي والسياسي التاريخي الطبيعي، وقمع الأفكار الناشطة في الاتجاه المدني والديمقراطي، وعندما بلغت الاتجاهات والأفكار الطائفية مداها جاءت النتائج الكارثية التي نعيشها والتي أسهمت في بناء جدار الفصل الطائفي. ومن الواضح من خلال التحليل العياني للواقع ومعطياته أنه كلما اتسعت الطائفية صغر الوطن، ولذلك فإن البحث خارج بنية الخطاب الطائفي، يقود بالضرورة إلى مشروع وطني ديمقراطي جامع يقوم على الثوابت الجامعة التي تم تحديدها في ميثاق العمل الوطني وكانت ومازالت محل إجماع شعبي، وعلى القضايا الجوهرية للوطن والمواطن لمعالجتها ضمن رؤية جامعة، بحيث تكون فرصة لبناء اكبر ائتلاف للقوى الوطنية المعادية للطائفية ذات المصلحة في الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية ومدنية الدولة، دولة الحريات والتقدم والمساواة بين المواطنين نساء ورجالا، في تناقض تام مع القوى الطائفية المعلومة المخاتلة والتي تمارس التمويه اللغوي والسياسي والإعلامي.
مشاركة :