في بداية الألفية الجديدة "2004 إلى 2008" انتعشت الأسواق العالمية مع بدء مرحلة استقرار دولي، وسط حالة تفاؤل عام سادت العالم لعدة عوامل، أهمها سقوط طاغية بغداد في عام 2003 وارتفاع سعر برميل النفط بشكل لافت حتى تجاوز المئة وخمسين دولاراً. وتأثرت أسواقنا الخليجية بهذا الانتعاش، وارتفعت أسعار الأسهم لمستويات غير مسبوقة، فسارع صغار المتعاملين في السوق والمضاربين إلى ضخ كل أموالهم في هذا السوق، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك، فقام كثير من المتعاملين إلى الاقتراض ورهن منازلهم وبيع حلي زوجاتهم طمعاً في الثراء، وقد خرج علينا العشرات من المحللين الماليين والفنيين وهم يحللون وضع الأسواق وتوقعاتهم لأداء الأسهم وسط تفاؤل الجميع باستمرار نمو الأسواق كما ضجت المحطات التلفزيونية بتقارير فنية عن أداء الأسواق، وانتشرت في تلك الفترة المنتديات الإلكترونية التي قدمت التحليلات المالية عن الأسهم. لكن استمرار الحال من المحال، إذ انهار سوقنا انهياراً كبيراً في عام 2008 متأثراً بانهيار أسواق أميركا وأوروبا وآسيا، وسط دهشة الجميع ومن دون إنذار مسبق، خصوصاً أن معظم المتعاملين في الأسهم لم يكونوا من الخبراء في هذا المجال، وندموا على دخولهم في مجال استثماري ومضاربي دون أن يكونوا ملمّين به، إذ انجرفوا وراء حالة التفاؤل العامة وبمساعدة المحللين الماليين، الذين صدحوا طوال فترة الانتعاش الاقتصادي بتحليلاتهم المالية وتوقعاتهم بشأن تماسك ونمو أداء السوق، لتخلق فيما بعد أزمة اقتصادية ومالية خانقة، فاختفى معظم المحللين بعد ذلك عن الظهور في مجال الإعلام. ويبقى السؤال هنا، أين كان دور الإعلام الاقتصادي الرزين في كل هذا؟ ولمَ لم يدلِ المختصون في هذا المجال برأيهم على الرغم من أن الأزمات الاقتصادية وسيناريوهات السقوط والانهيار الاقتصادي تكررت مرات عدة قبل ذلك؟ ولمَ لم يحذرنا أيّ من المحللين ويشرح لنا تبعات النمو المستمر والمتسارع بكل موضوعية وشفافية؟ ولمَ لم يقدم لنا الإعلام تحليلاً لأداء الشركات المالي وتضخم أصولها وخططها المستقبلية؟ حدث الانهيار وكأنها الصدمة التي لم يكن بالإمكان تجنبها. على أي حال، بعد وقوع هذه الكارثة العالمية تم تشكيل لجنة تحقيق أميركية في عام 2011 سميت بلجنة التحقيق في الأزمات المالية، وخرجت بنتائج صادمة، وجاء في تقريرها أنه كان بالإمكان تجنب الأزمة المالية عام 2008، وقالت: "إن أكبر مأساة هو قبول ما تردد بأن أحداً لم يستطع رؤية ما هو قادم، ولذلك لم يكن بالإمكان القيام بأي شيء". وأضافت اللجنة: "إذا قبلنا ذلك القول، فإن الأزمة ستعود مرة أخرى". يتكرر هذا المشهد في أذهاننا، إذ بدأت بعض بوادر الانتعاش بالظهور مرة أخرى في بورصة الكويت متأثرة بعدة عوامل، واستمرت أسعار البترول في التصاعد حتى تجاوزت أخيراً 75 دولاراً للبرميل الواحد، فيما يتوقع بعض المحللين استمرار ارتفاعه لفترة مقبلة، كما ارتفعت مؤشرات أداء الأسواق الأميركية وبعض الأسواق الأوروبية لمستويات قياسية. وعلى الصعيد المحلي، فقد تطور سوقنا في الفترة الماضية من خلال الترقيات إضافة إلى إنشاء هيئة أسواق المال والمعنية بالدور الإشرافي والرقابي على السوق، لكن تبقى ضرورة وجود إعلام اقتصادي متطور ومحايد وضرورة قصوى لحماية مصالح المستثمرين والمتعاملين ببورصة الكويت، وأن يكون هذا الإعلام بعيداً عن المحسوبية وذا مصداقية وخبرة حقيقية. ولنا عدة أمثلة في هذا، ففي محطة "CNBC" الأميركية يطل المحلل المالي جيم كريمر على مشاهديه بصورة دورية في شاشتها، ليقدم تقاريره حول أداء الشركات المدرجة في الأسواق الأميركية، ويقوم بتحليل الشركات وأدائها المالي وجودة أصولها وخططها المستقبلية، كما أنه يقدم رأيه بلا خوف أو محاباة لأي طرف وبسبب عمق تحليله الفني والمالي يمتلك هذا المحلل تأثيراً كبيراً في أداء الأسهم، فقبل عرض برنامجه التلفزيوني يصاب المستثمرون وحتى كبار مديري المحافظ بالخوف والهلع من أن تذكر أسماء أسهمهم كيلا تنهار، فأصبحت برامجه بالإضافة الى برامج المحطة الأخرى تستخدم كمؤشر لأداء الأسهم. وفي المقابل، فإن برامجنا التلفزيونية تقتصر على قراءة أسماء الأسهم الأكثر ارتفاعاً وانخفاضاً والتعليق على أداء المؤشر العام دون تحليل أداء الشركات المالي وتقديم آرائهم بكل شفافية وموضوعية. وعلى أي حال، فإن دور الجهات الرقابية وحدها لا يكفي لضمان حماية حقوق المستثمر في السوق، ولن يتم ضمان ذلك إلا في ظل وجود إعلام اقتصادي حر وذي خبرة وعمق تحليلي وبعيد عن المحسوبية أو الخوف ليعطي رأيه في أداء الشركات المالية بكل موضوعية وشفافية حتى لا تقع كارثة اقتصادية ومالية أخرى وتتكرر مأساة 2008.
مشاركة :