يحتوي الأدب العربي على عدد وافر من الأشعار المقولة في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم قديما وحديثا وتكوِّن تلك الأشعار فنا مستقلا في التراث الإسلامي والأدبي وقد تطور هذا الفن الشعري في المعنى والمبنى مجاريا مع العصور ولعب دورا تاريخيا ودينيا كبيرا بأن قدم السيرة النبوية مفصلا وميسرا للفهم وفاز بالشيوع والانتشار بين الناس. مر هذا الفن في تاريخه بثلاثة فترات هامة، فترة البعثة المحمدية وفترة الحروب الصليبية وفترة العصر الحديث وتم استخدامه في الأولى منها كأهم سلاح الدفاع عن الرسول وأعاد في الثانية ازدهاره بعد الركود النسبي وإزدهر في الثالثة إزدهارا شاملا مع التأثر بالعصر الحديث موضوعيا وفنيا . قرض شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري قصيدته المسماة بـ “الكواكب الدرية في مدح خير البرية” المشهورة بـ”البردة” في الفترة الثانية أعلاه ونالت قبولا غير مسبوق المثال وأصبحت آية في الرقة والتماسك والبلاغة وتميزت بروحها العذبة وروعة معانيها وجمال تصويرها ودقة ألفاظها وحسن سبكها وبراعة نظمها حتى أصبحت بمثابة مدرسة شعر المدائح النبوية المقتداة بها وظهرت قصائد عديدة معارضة للبردة في الأدب العربي القديم والحديث حيث نظم أصحابها قصائدهم على منوال البردة شاملين فيها المديح النبوي كغرض هام. المعارضات الشعرية : تعريفها وإسهاماتها في إثراء الشعر العربي المعارضة في اللغة الإتيان بمثل ما أتي إليك أو المباراة والمحاذاة والمجاراة للشيء بشيء يشبهه لعلاقة بينهما وفي الإصطلاح “أن يقول الشاعر قصيدة ما في موضوع ما من أي بحر وقافية فيأتي الشاعر الأخر فيعجب بهذه القصيدة في منهجها وصياغتها فيقول بقصيدة من بحر الأول وقافيته وفي موضوعها أو مع إنحراف عنه يسير أو كثير حريصا على أن يتعلق بالأولى في درجته الفنية أو يفوقه دون أن يتعرض لهجاءه أو سبه ودون أن يكون فخره صريحا أو علانية فالمعارض يقف من صاحبه موقف المقلد المعجب أو المعترف ببراعته” أسهمت المعارضة الأدبية منذ العصور الأولى في ازدهار الشعر العربي وتطوره إسهاما باهضا وحفظت لنا تراثا شعريا أضاف إلى ديوان الشعر صفحات ناصعة وأذكت روح التنافس بين الشعراء مما كان له أثر كبير في تطوير الشعر العربي الحديث وتوجد فيها معارضة القدماء للقدماء كمعارضة الأخطل لكعب بن زهير والكميت لعمرو بن كلثوم وأبي تمام لبشار بن برد والبحتري لطرفة بن العبد والبوصيري لابن الفارض ومعارضة المحدثين للقدماء كمعارضة البارودي وشوقي للبوصيري كما أن المعارضة كانت إما كلية بالقصائد المتفقة في الموضوع والوزن والقافية وحركة الروي وإما جزئية بالقصائد المختلفة في عنصر من العناصر المذكورة قصيدة البردة للبوصيري ومعارضاتها ظلت بردة شرف الدين البوصيري مصدر الإلهام للشعراء على مر العصور، يحذون حذوها وينسجون على منوالها وعارضها أكثر من مائة شاعر كما أقبل على شرحها كثير حتى تجاوزت شروحها المكتوبة خمسين شرحا وقد قرض البوصيري البردة في بحر البسيط التام الذي تتكون تفصيلاته من ’مستفعلن فاعلن‘ أربع مرات مع الخبن الداخل على ’فاعلن‘ وتصير ’مستفعلن فعلن‘ وحرف رويها ميم مكسورة ويجمع البوصيري فيها كل أدواته الشعرية ويجمع همته لمدح خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ويبدأها بـ : أَمن تذكر جيران بذي سلــــــم مزجت دمعا جرى من مقلة بـــــــدم أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضم وتدور البردة حول عدة أفكار يجمعها غرض واحد هو مدح الرسول صلى الله عليه وسلم والإشادة برسالته ولهذا الغرض بدأ الشاعر قصيدته بالغزل على غرار الشعراء القدماء من العرب وضمن فيها الحديث عن النفس وهواها والطريق إلى هداها وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم ومولده ودعوته وأثرها وسرد بعض معجزاته ثم انتقل إلى ذكر جهاد الرسول إلى أن ختمها بطلب المغفرة من الله والتعبير عن طمعه في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتميزت القصيدة عن غيرها في صياغتها من التركيب الجميل والمعنى السامي حتى أن أصبحت آية من آيات الفن وكوكبا في سماء الإبداع . تدرس البردة في الكثير من المعاهد الدينية في شتى أنحاء العالم كجزء معين من المناهج الدراسية وزادت شروحها على المائة باللغات العربية وغيرها من لغات أقطار المسلمين ومن أهمها شرح إبن الصائخ وشرح إبن العماد وشرح إبن مرزوق التلمساني وشرح جلال الدين المحلي وشرح الشيخ خالد الأزهري وشرح الشيخ زكريا الأنصاري. وتوجد عدة قصائد معارضة للبردة منها: •قصيدة مالك بن المرحل الأندلسي (ت 699 هـ) ومطلعها: شوقٌ كما رُفعتْ نارٌ على علمِ تشبُ بين فروعِ الضالِ والسلـــمِ •بديعية صفي الدين الحلي (ت 750 هـ) ومطلعها: إن جئت سلعاً فسل عن جيرةِ العلمِ واقرا السلامَ على عربٍ بذي سلمِ •بديعية شمس الدين بن جابر الأندلسي (ت 780 هـ) ومطلعها: بِطَيبَةَ انزِل وَيَمِّم سَيِّدَ الأُمَـــــــــمِ وَانشُر لَهُ المَدحَ وَاِنثُر أَطيَبَ الكَلِمِ •بديعية عز الدين الموصلي (ت 789 هـ) ومطلعها: براعةٌ تستهلُ الدمعَ في العلمِ عبارةٌ عن نداءَ المفردِ العلمِ •بديعية الشيخ محمد المقري(ت 849 هـ): ومطلعها: عجبي عراقي فعجبي نحو ذي سلمِ واجنحْ لسكانها بالسلمِ والسلمِ •بديعية أبو بكر بن حجة الحموي (ت 837 هـ) ومطلعها: لي في ابتدا مدحكم يا عُرْب ذي سلَمِ براعة تستهلُّ الدمعَ في العلَمِ •بديعية جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) ومطلعها: من العقيقِ ومن تذكارِ ذي سلمِ براعةٌ تستهلُّ الدمعَ في العلمِ •بديعية عائشة الباعونية (ت 922 هـ) ’الفتح المبين في مدح الأمين‘ ومطلعها: في حسنِ مطلع أقماري بذي سلَمِ أصبحتُ في زمرةِ العشاق كالعلَمِ •بديعية الشيخ عبد الرحمن الحميدي (ت 1005 هـ) ’تمليح البديع بمديح الشفيع‘ ومطلعها: رد ربع أسما وأسمى ما يرام رمِ وحي حيا حواها معدنُ الكرمِ •بديعية السيد علي خان (ت 1018 هـ) ’أنوار الربيع‘ ومطلعها: حسنُ ابتدائي بذكرى جيرة الحرمِ له براعةُ شوقٍ يستهلُّ دمي •بديعية الشيخ عبد القادر الطبري الشافعي (ت 1032 هـ) ومطلعها: حسنُ ابتداءُ مديحي حي ذي سلمِ أبدى براعةُ الاستهلالِ في العلمِ •بديعية الشيخ أحمد المقري التلمساني (ت 1041 هـ) ومطلعها: شارفت ذرعا فذر من مائها الشبـمِ وجزت نملي فنم لا خوفَ في الحرم •بديعية عبد الغني الحنفي النابلسي (ت 1143 هـ) الأولى ومطلعها: يا منزل الركبِ بين البانِ فالعلَمِ من سفح كاظمة حييتَ بالديَمِ •بديعية عبد الغني الحنفي النابلسي (ت 1143 هـ) الثانية ومطلعها: يا حسن مطلع من أهوى بذي سلَمِ براعة الشوقِ في استهلالها ألمي •بديعية الشيخ قاسم البكرة الحنفي (ت 1169 هـ) ومطلعها: من حسنِ مطلعِ أهلِ البانِ والعلمِ براعتي مستهلٌ دمعها بدمِ •بديعية السيد حسين الرضوي الهندي (ت 1156 هـ) ومطلعها: حي الحيا عهد أحبابٍ بذي سلمِ وملعـبُ الحي بين البانِ والعلمِ •بديعية محمود صفوت الساعاتي (ت 1298 هـ) ومطلعها: سفحُ الدموعِ لذكرِ السفحِ والعلَمِ أبدى البراعةَ في استهلالِهِ بدمِ •قصيدة محمود سامي البارودي (ت 1322 هـ) ’كشف الغمة في مدح سيد الأمة‘ ومطلعها: يا رائد البرقِ يمم دارةَ العلــــــمِ واحدُ الغمامَ على حي بذي سلمِ •قصيدة أحمد شوقي (ت 1351 م) ’نهج البردة‘ ومطلعها: ريم على القاعِ بين البانِ والعلـــمِ أحل سفك دمي في الأشهرِ الحرمِ •قصيدة الشيخ أحمد الحملاوي(ت 1351 هـ) ’منهاج البردة‘ ومطلعها: يا غافرَ الذنبِ من جودٍ ومن كرمِ وقابلَ التوبِ من جانٍ ومجترمِ •بديعية الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي (ت 1338 هـ) ومطلعها: بديعُ حسنُ بدور نحو ذي سلمِ قد راقني ذكره في مطلعِ الكلمِ •قصيدة المراكشي إسماعيل زويريق ومطلعها: يا شاكيَ البانِ كم في البينِ من سقمِ؟ شكواك تنسابُ لحنا دافــقَ الألمِ •بديعية الشيخ محمد بن عبد الحميد المعروف بـ حكيم زاده الأولى ومطلعها: حسن ابتدائي بذكرِ البانِ والعلمِ حلا لمطلع أقمارٍ بذي سلمِ •بديعية الشيخ محمد بن عبد الحميد المعروف بـ حكيم زاده الثانية ’اللمعة المحمدية في مدح خير البرية‘ ومطلعها: إن رمتَ صنعا فصن عن مدحِ غيرهمِ يا قلب سرا وجهرا جوهر الكلمِ •بديعية الشيخ أبو الوفاء العرضي الحلبي ومطلعها: براعتي في ابتدا مدحي بذى سلمِ قد استهلت لدمعٍ فاضَ كالعلمِ •بديعية الشيخ محمد المازندراني الحائري ومطلعها: من حسن مطلع سلمى مستهلُ دمي لله من دم ذي سلمٍ بذي سلمِ •بديعية الشيخ عبد الله محمد بن أبي بكر ومطلعها: يا عاملَ اليعملات الكوم في الأكمِ بالعيسِ بالعيسِ عرجْ نحوَ ذي سلمِ •بديعية الواردي المقري ومطلعها: إن زرتَ سلمى فسلْ ما حل بالعلمِ وحي سلعا وسلْ عن حي ذي سلمِ •قصيدة الدكتور عائض القرني ’تاج المدائح‘ ومطلعها: أنصت لميميةٍ جاءتك من أَمَمِ مدادها من معاني نون والقلمِ •قصيدة الدكتور ناصر الزهراني ومطلعها: تعجب الخلقُ من دمعـي ومـن ألمـي ومـا دروا أن حُبـي صُغتـه بـدمـي •معارضة السيدة عائشة عصمت بنت إسماعيل تيمور المشهورة بالتيمورية ومطلعها: أعن وميض سرى في حندس الظلم أم نسمة هاجت الأشواق من إضم ليست القصائد أعلاه إلا بعض النماذج الرائعة من القصائد التي عارض بها أصحابها قصيدة البوصيري ’الكواكب الدرية في مدح خير البرية‘ ولا شك في أن القائمة تطول لو تهيأنا لعد الأكثر من نماذجها قصيدة البارودي في معارضة البردة محمود سامي البارودي شاعر العصر الحديث الذي يرجع إليه كل الفضل في إحياء الشعر العربي وتجديده وكان باعث النهضة الشعرية في العصر الحديث حيث ارتفع به إلى منزلة الفحول من الشعراء العباسيين حتى عرف بـ ’رائد الشعر العربي الحديث‘، مدح البارودي النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدتيه وقصيدة ‘كشف الغمة في مدح سيد الأمة’ هي التي عارض بها بردة البوصيري ومطلعها: يا رائد البرقِ يمم دارةَ العلــــــمِ واحدُ الغمامَ على حي بذي سلمِ تعد معارضة البارودي من أكثر معارضات البردة في العصر الحديث أفكارا وأطولها أبياتا لأنها بلغت سبعة وأربعين وأربع مائة (447) بيت من بحر البسيط وروي الميم المكسورة ويقول في مقدمة القصيدة: ’فهذه قصيدة ضمنتها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من حين مولده الكريم إلى يوم إنتقاله إلى جوار ربه وقد بنيتها على سيرة ابن هشام ... ورغبتي إلى الله أن تكون لي ذريعة أمت بها يوم المعاد وسلما إلى النجاة من هول المحشر، أللهم فحقق رغبتي إليك، وأكسها بفضلك رونق القبول- أمين. قصيدة شوقي في معارضة البردة أحمد شوقي المتوج بلقب ’أمير الشعراء‘ شاعر رحب الأفق واسع التصرف خصب الشاعرية تصرف في جميع فنون الشعر وأتى فيها بالعجب العجاب وعارض كبار شعراء العربية في أروع قصائدهم فما كبا خياله ولا وهن نسجه ولا سقط معناه وقد تأثر بأمثال البحتري وأبي تمام والمتنبي والشريف الرضى وأبي فراس في شعره كثيرا. ومن الملاحظ هنا أن شعر شوقي الديني تركز على المديح النبوي وتلك المدائح النبوية بلغت أربع قصائد بالإضافة إلى بعض الأبيات التي وردت في ديوانه ‘دول العرب وعظماء الإسلام’ وفي بعض قصيدته الأخرى وفي القصيدة الأولى منها تسعة وتسعون بيتا وهي بعنوان ‘ذكرى المولد’ والقصيدة الثانية أيضا بنفس العنوان فيها واحد وسبعون بيتا والقصيدة الثالثة ‘الهمزية النبوية’ فيها واحد وثلاثون ومائة بيت ومطلعها: ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثـناء أما القصيدة الرابعة هي ‘نهج البردة’ التي عارض بها شوقي بردة البوصيري قد جارى شوقي البوصيري مستلهما نفس العناصر الفكرية التي صورها من حيث الغزل الصوفي وبيان حبه للرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم تحذيره النفس من غرور الدنيا وضمن في قصيدته كل ما ضمنه البوصيري في بردته المقارنة بين قصيدة البردة وبين معارضتيها للبارودي وشوقي إن المقارنة بين قصيدة ’الكواكب الدرية في مدح خير البرية‘ للبوصيري ومعارضتيها قصيدة ‘كشف الغمة في مدح سيد الأمة’ للبارودي وقصيدة ’نهج البردة‘ لأحمد شوقي من خلال بناء القصيدة والأفكار وترتيبها والوحدة العضوية والعاطفة ومدى صدقها والخيال والأسلوب تكشف عن الأمور والنواحي التي توافقت فيها المتأخرتان المتقدمة وأخرى تخالفتاها فيها . •بناء القصيدة: يحتوي بناء القصيدة على مطلع القصيدة والتخلص منه إلى الغرض والخاتمة ويتبين من تحليل مطلع القصائد الثلاثة أن الثلاثة اشتركت مطالعها في الإشارة إلى الأماكن العربية (ذي سلم، دارة العلم، البان، العلم) ولهذا الاشتراك ولو كان محض تقليد للسابقين أثر كبير في جذب قلوب القارئين والسامعين لأنها رموز للمعاني الدينية التي تكشف عن الشوق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها إشارة إلى ما له علاقة وطيدة بحياة الرسول كأن يمر بها ويمكث بها في هجرته من المكة إلى المدينة وبتحليل خروج الشاعر من مطلع قصيدته وانتقاله إلى الغرض يتبين أن البوصيري آثر حسن التخلص فلم ينتقل من النسيب إلى مدح الرسول مباشرة بل انتقل من النسيب إلى الحديث عن النفس ثم انتقل من ذلك إلى مدح الرسول بعد أن مهد الطريق إليه تمهيدا حسنا وهذا الذي يتبين في : إني إتهمت نصيح الشيب في عذل والشيب أبعد في نصح عن التهم فبه مهد للانتقال إلى الحديث عن النفس وقال : فإن أمارتي بالسوء ما إتعظت من جهلها بنذير الشيب والهرم وبه مهد للانتقال إلى مدح الرسول وقال : ولا تزودت قبل الموت نافلة ولم أصل سوى فرض ولم أصم ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى أن إشتكت قدماه الضر من ورم وكذلك آثر أيضا حسن التخلص لأنه حينما تحدث عن سرعة القطاة وأراد الانتقال إلى مدح الرسول قال : لَيتَ القَطا حِينَ سارَت غُدوَةً حَمَلَت عَنّي رَسائِلَ أَشواقي إِلى إِضَمِ ولا شَيءَ يَسبِقُها إِلاّ إِذا اِعتَقَلَت بَنانَتي في مَديحِ المُصطَفى قَلَمِي فبهذا التخلص الحسن لا يشعر السامع والقارئ بالانفكاك أو الغرابة بين الفكرتين ولكن البارودي نراه قد ترك حسن التخلص هذا وآثر الإقتضاب وخاصة عندما انتقل من الغزل إلى الحديث عن الدنيا وخطوبها والنفس وغفلتها كما نرى في : لم أغش مغناك إلا في غضون كـــرًى مغناك أبعدُ للمشتـاق مـــن إرم ويا نفس دنياك تُخفى كل مُبكية وإن بدا لك منها حسن مُبتـســـــم فانتقل إلى الحديث عن الدنيا فجأة من غير تمهيد أما الخاتمة اشترك جميع الثلاثة فيها حيث يختم كل قصيدته مع الصلاة والسلام على الرسول مع التضرع إلى الله فيقول البوصيري في بردته: وأذن لسحب صلاة منك دائمة على النبي بمنهل ومنسجم ما رنحت عذابات البان ريح صبا وأطرب العيس حادى العيس بالغنم والبارودي في كشف الغمة في مدح سيد الأمة: وَصَلِّ رَبِّ عَلى المُختارِ ما طَلَعَت شَمسُ النَّهارِ وَلاَحَتْ أَنجُمُ الظُّلَمِ وَالآلِ وَالصَّحبِ وَالأَنصارِ مَن تَبِعُوا هُداهُ وَاعْتَرَفوا بِالعَهدِ وَالذِّمَمِ وَامنُن عَلى عَبدِكَ العانِي بِمَغفِرَةٍ تَمحُو خَطاياهُ في بَدءٍ وَمُختَتَمِ وشوقي في نهج البردة: يا رَبِّ صَلِّ وَسَلِّـم ما أَرَدتَ عَلـى نَزيلِ عَرشِـكَ خَـرِ الرُسـلِ كُلِّهِـمِ يا رَبِّ أَحسَنتَ بَــدءَ المُسلِميـنَ بِـه فَتَمِّمِ الفَضلَ وَاِمنَح حُسـنَ مُختَتَـمِ •الأفكار وترتيبها الأفكار التي اشتملت عليها ‘البردة’ هي النسيب والتحذير من النفس وهواها ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم ومولده ومعجزاته والتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم والتضرع إلى الله وغيرها والتي تقدمها ‘كشف الغمة في مدح سيد الأمة’ هي نفس الأفكار في ‘البردة’ ولكن مع زيادة بعض الأفكار مثل رضاع الرسول ورعيه الغنم واشتغاله بالتجارة وغيرها في حين أن ‘نهج البردة’ لم تزد على ما في البردة من الأفكار إلا التصحيح والدفاع عن فرية نشر الإسلام بالسيف والإشادة بالشريعة الإسلامية وحضارة المسلمين وأما ترتيب تلك الأفكار فيها غير موافق معه في الأخريين •الوحدة العضوية إن الوحدة العضوية التي تتمثل في اندماج عناصر القصيدة واتحاد أجزائها وحبكة صياغتها وتسلسل سياقها بحيث تبدو كلا مجمعا لا أجزاء معددة وجدت في ‘البردة’ و‘كشف الغمة في مدح سيد الأمة’ و ‘نهج البردة’ وإن تفاوتت قوة وضعفا، إذ هي في قصيدة البارودي أقوى منها في قصيدتي البوصيري وشوقي •العاطفة يشترك أصحاب القصائد الثلاثة في صفات كثيرة مثل الإيمان بالله ورسوله وإعجابهم ببطولة الرسول وأصحابه وكفاحهم ضد المشركين وهذه الصفات تحرك العاطفة وتثير الإحساس ولكنها ليست بمتساوية في الجميع بل متفاوتة قوة وضعفا لأن كل واحد منهم انفرد عن الآخر في ظروف إنشاء القصيدة •الخيال تبدو صور الخيال في النص الأدبي في التشبيه والاستعارة والكناية وغيرها وقد استخدم كل من البوصيري والبارودي وشوقي التشبيهات والإستعارات والكنايات حيث تقرب المعاني المقصودة في القصيدة إلى أذهان القارئين والسامعين. فالبوصيري عند حديثه عن النفس ونفارها يقول: من لي برد جماح من غوايتها كما يرد جماح الخيل باللجم في هذا البيت قد أتى البوصيري بتشبيه محسوس مختار من الواقع الملموس وهذا يرسم صورة واضحة لتلك النفس الأمارة بالسوء وكذلك شبه النفس بالطفل حينما بين الطريق الصحيح لمعاملته حيث يقول: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم والبارودي شبه سرعة مرور القطاة بلمح البرق في الظلم في قوله : لا تُدركُ العَينُ مِنها حينَ تَلمَحُها إِلا مِثالاً كَلَمْعِ البَرقِ في الظُّلَمِ وكذلك يقول في وصفه لخيل المسلمين : كأن أفنابها في الكر ألوية على سفين لأمر الريح مرتسم وقد أبدع شوقي في خياله حينما أشار إلى طغيان النفس في قوله: تطغى إذا مُكِّنت من لذّة وهـوًى طَغْي الجياد إذا عَضَّـت على الشُّكم وكذلك حينما يشير إلى تحكم الأقوياء في الضعفاء وظلمهم إياهم قبل البعثة في قوله: والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم •الأسلوب إن ألفاظ القصائد الثلاثة جيدة وجامعة للرقة والجزالة والسهولة وخالصة من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس بل تستوفي شروط فصاحة الكلمة من الدقة والإيحاء وفائدة في التكرار والخلوص من الكلمات غير الشعرية ففي كل منها الوضوح وملائمة الألفاظ للمعاني ونورد هنا مثالا لدقة الكلمة في كل واحد من القصائد الثلاثة بأن تكون الكلمة أدل على إحساس الشاعر من الأخرى: ما حوربت قط إلا عاد من حرب اعدى الأعادي إليها ملقى السلم وَكانَ ذا رَمَدٍ فَارْتَدَّ ذا بَصَرٍ بِنَفثَةٍ أَبرَأَت عَينَيهِ مِن وَرَمِ ولا يهدم الدهر ركنا شاد عدلهم وحائط البغي ان تلمسه ينهدم للبوصيري والبارودي وشوقي على الترتيب ففي الأولى كلمة ‘حوربت’، تشير إلى عنت المشركين تجاه الآيات القرآنية ووقوفهم في سبيلها ولكن سرعان ما تتمكن من شغاف قلوبهم فيحسون بروعتها ويعترفون بجلالها وشرفها وفي الثانية يشير الشاعر إلى معجزة للرسول حينما أبرأ عليا من الرمد ولذلك أتى بكلمة نكرة ‘نفثة’ ففيها إشارة إلى سرعة الشفاء بسبب هذه النفثة الصغيرة وفي الثالثة يشير الشاعر إلى قوة أسس الشريعة الإسلامية التي بنى عليها المسلمون حضارتهم ومنها العدل ثم ذكر أن البناء الذي يقوم على العدل لا يستطيع الدهر هدمه، أما حائط الظلم فمهما كانت قوته ، ‘إن تلمسه ينهدم’ ولا يخفى أن لفظ ‘تلمسه’ يدل دلالة قوية على ضعف ذلك البناء ولا شك في أن الشاعر قد أحسن في إختياره ذلك اللفظ ليعبر عن فكرته وهكذا نرى البارودي وشوقي قد نهجا في قصيدتيهما ‘كشف الغمة في مدح سيد الأمة’ و‘نهج البردة’ منهج البوصيري في ‘الكواكب الدرية في مدح خير البرية’ وقرضاهما على منوالها مع الوحدة في موضوع المديح النبوي ولكن مع بعض التزايد أو التخالف في الأغراض الخاتمة تحتل بردة البوصيري مكانة مرموقة بين القصائد المقروضة في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولم تزل هي القدوة المثلى لمن جاء بعده في فن المديح النبوي لينهجوا منهجها وينظموا القصائد على منوالها حتى وجد عدد كثير من المعارضات الشعرية التي أسهمت بإضافات قيمة إلى تراث الأدب العربي اللغوي والشعري وتناولت في هذه المقالة قصيدة للبارودي وقصيدة لشوقي اللتين عارضا بهما قصيدة البردة للبوصيري ومن تحليل العناصر اللأدبية والشعربية واللغوية في المعارضات الشعرية للبردة توصلت إلى نتائج منها: •توجد في الشعر العربي عدد كثير من المعارضات الشعرية لبردة البوصيري والتي لم تخل قط من الروعة الفنية والجمال الشعري •لم يكن للشعراء الذين عارضوا بردة البوصيري غرض إلا المديح النبوي كما كان ذلك غرض البوصيري •ساعدت قصيدة البردة ومعارضاتها على إعادة الحياة إلى كثير من الألفاظ والاستعمالات اللغوية وخاصة بالاقتباس من القرآن الكريم •أفادت المعارضات الأدب العربي نموا واتساعا وتجديدا وابتداعا وأضافت إليه ثروة رائعة من بديع الخيال والأفكار الجديدة والعبارات الفريدة وأخيرا، نظم شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري قصيدته المسماة بـ “الكواكب الدرية في مدح خير البرية” المشهورة بـ”البردة” قبل قرون ونالت قبولا كبيرا وأصبحت بمثابة مدرسة شعر المدائح النبوية المقتداة بها ووجد كثير من الشعراء الذين نظموا قصائد عديدة معارضة للبردة في الأدب العربي القديم والحديث ومن أبرز تلك المعارضات في العصر الحديث قصيدة ‘كشف الغمة في مدح سيد الأمة’ للبارودي وقصيدة ‘نهج البردة’ لشوقي، نهجا فيهما منهج البوصيري في بردته وقرضاهما على منوالها مع الوحدة في موضوع المديح النبوي وبناء القصيدة والأفكار وترتيبها والوحدة العضوية والعاطفة والخيال والأسلوب. *الأستاذ المساعد في العربية بالكلية الحكومية للفنون، ترفاندرام، كيرالا
مشاركة :