يقول الاقتصادى البارز جوزيف استجليتز الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد: إن المستويات المرتفعة من التفاوت وانعدام المساواة الذى تشهده الولايات المتحدة حاليا، وزيادته الهائلة فى الأعوام الثلاثين الأخيرة، هو نتاج متراكم لمجموعة من السياسات والبرامج والقوانين، فإذا كان الرئيس الأمريكى نفسه قد أوضح أن هذا التفاوت يجب أن يتصدر أولويات الدولة، فكل سياسة جديدة وكل برنامج أو قانون جديدين يجب أن يختبرا أولاً من منظور الأثر المتوقع لصدورهما على مستوى التفاوت المجتمعى. جاء ذلك فى مقال له بعنوان على الجانب الخطأ من العولمة فى معرض نقده لاتفاقية التجارة عبر الباسيفيك. فإذا علمنا أن ستيجلتز كان رئيسا للمجلس الاقتصادى الاستشارى للرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون، وأنه شغل بعد ذلك منصب كبير الاقتصاديين بالبنك الدولى، ندرك أن الرجل لم يكن يوماً حبيس المختبر والنظرية، لكنه تعامل مع الواقع الاقتصادى فى محيطين ولدا وتطورا فى أحضان مدارس فكر الاقتصاد الحر، وإن كان ستيجلتز نفسه ينتمى إلى المدرسة الكينزية الحديثة فى الاقتصاد، لكن ذلك لا ينفى عنه صفة الإيمان بالفكر الكلاسيكى الحر القائم على مبدأ دعه يعمل دعه يمر. وقد بات معلومًا لدراسى الاقتصاد أن كينز ذاته إذ يدعو إلى تدخل محسوب للدولة فى الاقتصاد هو من أعطى قبلة الحياة للنظرية الكلاسيكية كى تستمر بعد الكساد الكبير. على الجانب الآخر من الأطلنطى يظهر كتاب رأس المال فى القرن الحادى والعشرين لاقتصادى فرنسى شاب هو توماس بيكيتى لكن الكتاب المتخصص فى العلم الكئيب (الاسم الشائع لعلم الاقتصاد بعد ظهور نظرية مالتس المتشائمة) يحطم أرقاماً قياسية فى المبيعات باللغتين الفرنسية والإنجليزية منذ نشره فى أغسطس 2013 ويستفز العامة والمتخصصين لمناقشة أطروحته فى مختلف المحافل والندوات، على الرغم من كون الكتاب يحيي فى الأذهان كتاب رأس المال لكارل ماركس، ويحمل أفكاراً مدارها تعاظم الفجوة بين الأغنياء والفقراء طالما بقى النظام الرأسمالى سائداً، لأن آليات عمل هذا النظام تدفع الثروة إلى التركّز فى يد عدد قليل من أصحاب رءوس الأموال فى فترات النمو الاقتصادى ويزداد تركّزها فى فترات التباطؤ الاقتصادي. ويرى بيكيتى أنه لم يوقف النظام الرأسمالى عن تدمير ذاته عبر آليات عمله تلك خلال العقود الماضية، سوى الحروب والأزمات الاقتصادية الكبرى التى ساعدت على تخفيف حدة تراكم الثروة وتركّزها. لم يعتمد بيكيتى فى كتابه على المعادلات الاقتصادية المعقّدة لإثبات صحة فرضيته لكنه اعتمد على بيانات ميدانية لسلسة زمنية طويلة شملت العديد من البلدان، وما انفك الرجل يدفع عن نفسه أى اتهام بالماركسية حتى خصص لذلك مقالات وحوارات كاملة، بل هو يؤكد أنه لم يقصد بهذا الكتاب سوى التعامل مع الأعراض السلبية للنظام الرأسمالى، ومراعاة الحد من التفاوت الذى ينذر بكارثة عالمية كبرى ذات بعد سياسى فضلاً عن البعد الاقتصادى. العالم إذن مهموم بمعضلة التفاوت وكفاءة توزيع الدخل وعائدات النمو، والاضطرابات السياسية التى نراها هنا وهناك قد يكون معظمها محض انعكاس لاحتقان طبقى وصراع مكبوت بين قلة تملك المال وأسباب الرفاهة والعيش الكريم، وكثرة باتت محرومة من الحق فى العمل والعلاج والتعليم، ناهيك عن الحق فى الحياة الذى بات مطلباً صعباً لكثير من مواطنى إفريقيا جنوب الصحراء، فى غيبة مصادر آمنة للمياه والغذاء والكساء. هذا الاهتمام العالمى ظهر أيضاً فى الإعلان عن أهداف الاستدامة حتى عام 2030 التى أطلقتها الأمم المتحدة سبتمبر الماضى وكان فى مقدمتها القضاء على الفقر. تلك الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء لن تكون تبعاتها السلبية حكراً على الدول النامية وتلك التى تعاني من أزمات اقتصادية حالية، لكن تشابك العلاقات الاقتصادية بين بلدان العالم، ومتطلبات العولمة، بل واستمرار عمل آليات النظام الرأسمالى بغير مقاطعة من حروب أو أزمات كبرى –لا قدّر الله- جعلت من الصعوبة بمكان نجاة أى دولة فى العالم من تلك التبعات ولو بدرجات متفاوتة. كذلك فإن انتظار أثر التساقط trickle-down effect الذى بمقتضاه تتساقط فوائض الثروة من قمة الهرم الذى يحتله الأثرياء إلى وسطه وقاعدته لا يعدو أن يكون عملاً ساذجاً إذا لم يكن للدولة دور فى تنظيم هذا التوزيع، وتجدر الإشارة هنا أن أثر التساقط المزعوم قد وصفه ستيجلتز بالأسطورة. أما عن مدى إدراك الدولة المصرية لهذا الواقع وتلك المخاطر، ومدى ترجمة هذا الإدراك إلى نصوص دستورية وقانونية ولوائح تنفيذية فهذا حديث يتسع له مقال آخر. mnafei@gmail.com
مشاركة :