د.مدحت نافع يكتب لـ "بوابة الأهرام" .."ريموند اسكينازى" والتنمية البشرية

  • 1/15/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

بعد أن اكتملت خارطة الطريق التى رسمتها ثورة 30 يونيو بانتخاب مجلس النوّاب، وبعد أن شاهدنا أداء نواب الشعب فى جلسة الإجراءات، فقد آثرت أن أخصص مقال هذا الأسبوع لتناول أهم وأبرز مقومات التنمية المستدامة، تلك التى تتصل بصناعة الإنسان، إنسان واحد يمكن أن يصنع الفرق بين أمة من الدواعش تتغذى على دماء الأبرياء حاملة لواء التدين الزائف، وأخرى تعلى قيمة العلم وترفعه أسمى الدرجات. ريموند اسكينازى عالم مصرى المولد، ولد فى الإسكندرية عام 1950 لأسرة يهودية، تعرّضت أسرته لمضايقات فى الستينيات من القرن الماضى شأن الكثيرين من يهود مصر، فكان ملاذهم الهجرة خارج البلاد. انتقل اسكينازى إلى بريطانيا حيث حصل على درجتى البكالوريوس والدكتوراه فى الكيمياء عامى 1972 و 1976 على التوالى من جامعة باث الإنجليزية، ثم انتقل إلى جامعة ييل لدراسة علم الأدوية، وهو حالياً يمارس مهنة التدريس والبحث العلمى فى جامعة إيمورى بالولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن عدد من الجامعات والمعاهد العلمية الأخرى. ولعل القارئ العزيز يسأل عن سر اهتمامى بسيرة هذا الرجل، صحيح هو نموذج لرجل ناجح، لكنه حتى هذه السطور لم يعد أن يكون سوى عقل بارز من العقول المهاجرة خارج مصر، ممن تغص بهم سير أعلام العصر الحديث. لم أكتب عن اسكينازى لتفوقه الأكاديمى أو البحثى، ولا لنجاحه فى مجال الأعمال، حيث شارك فى تأسيس العديد من شركات التكنولوجيا الحيوية، بيعت واحدة منها فقط عام 2012 بنحو 11 مليار دولار لشركة جيلياد. كذلك لم أكتب عن اسكينازى لتسجيله أكثر من 90 براءة اختراع أمريكية وعالمية، أو لأن أكثر من 90% من مرضى فيروس الإيدز حول العالم يتداوون بواحد على الأقل من الأدوية التى اخترعها..كل ذلك إنجاز عظيم، لكن ما يجعل ريموند اسكينازى مميزاً لكل المصريين بلا استثناء هو اختراعه لدواء فاعل لفيروس سى القاتل المصاب به حالياً أكثر من 12 مليون مواطن مصرى أى نحو 14% من تعداد السكان. هذا الدواء المعروف تجارياً باسم سوفالدى هو الذى انتقلت ملكيته إلى شركة جيلياد فى الصفقة الضخمة التى أشرت إليها سابقاً، وهو الدواء الوحيد للفيروس اللعين الذى يتم تناوله بسهولة عبر الفم وبلا أعراض جانبية تقريباً. اليوم يقف ملايين المصريين صفاً فى انتظار سوفالدى، الذى نجحت الحكومة المصرية فى التفاوض مع شركة جيلياد للحصول عليه نظير 1% من سعره العالمى، لكن شحنته الأولى لم تستهدف أكثر من 70 ألف مصاب بالفيروس، مما جعل قائمة الانتظار طويلة ومؤلمة. بحساب التكلفة والعائد لم يتكلّف تعليم اسكينازى ورعايته رعاية صحية كاملة، وتوفير أسباب العيش الكريم له ولأسرته أكثر من كسور من قيمة العائد المادى الذى حققته شركاته فى صفقة واحدة، أما العائد الذى لا يمكن تقديره بأى ثمن، فهو مساهمته فى إنقاذ أرواح ملايين البشر حول العالم من فيروس فتّاك يقتات على أكباد البشر، فيتركهم كأعجاز نخل خاوية. ربما لم تكن نظم التعليم والبحث العلمى فى مصر لتساعد اسكينازى على تحقيق إنجازاته العلميةالتى حققها فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لكن لو كان ثمة آلية لاكتشاف النوابغ والأفذاذ ثم إيفادهم فى بعثات علمية على نفقة الدولة، مع ربطهم بعقود طويلة الأجل للعمل فى مصر بعد انتهاء فترة الدراسة والبحث، فضلاً عن ربطهم معنوياً بغرس قيم الولاء والانتماء للوطن الذى لا يطرد أبناءه ولا يقتل أسباب التفوق والنبوغ فى وجدانهم، لوجدنا اختلافاً كبيراً. مازالت تجربة محمد على فى إيفاد البعثات التعليمية تطرق أذهاننا كلما تناولنا تاريخ بناء الدولة الحديثة، حينها كانت مصر قبلة لمختلف الشعوب والأجناس، ناهيك عن كونها حاضنة طبيعية لأبنائها من مختلف الأديان. بالطبع تجربة اسكينازى وسائر يهود مصر تختلف عن كل تجارب العقول المهاجرة فى سائر العقود التالية، لكن مازال بمقدورنا استخراج العبر الكثيرة من هذه التجربة الفريدة. كل الدول التى استطاعت أن تبنى حضارات كبيرة ومؤثرة اشتركت فى خاصية واحدة على الأقل، وهى استيعابها لفكرة الاختلاف، وتعايشها بسلام مع تلك الفكرة. ونحن اليوم بصدد تراث فكرى إقصائى فى كثير من مصادر العلم والتربية، فليس أقل من تنقية هذا التراث من شوائب الحقد والكراهية التى تميّز بين أبناء الوطن الواحد، ناهيك عن التمييز بين البشر والحط من قيمة كثير من الشعوب ولو عبر النكات والأفلام!. ذلك هو مضمون الدعوة التى أطلقها رئيس الجمهورية وحاجج بها رجال الدين فى خطوة غير مسبوقة، استرعت انتباه وسائل الإعلام حول العالم. أين مصر اليوم من صناعة الأدوية التى يقدر حجمها بنحو تريليون دولار (ألف مليار دولار) فإذا ما أضفنا له صناعات أخرى مرتبطة بالصحة يصل إلى 4.4 تريليون دولار؟!. أين مصر من تقرير التنافسية الدولى الذى احتلت فيه المركز 119 من بين 144 دولة لعام 2014/2015؟! أين هى من مسوح البنك الدولى للأعمال لعام 2015 الذى حصلت فيه على المركز 112 من بين 189 دولة؟! هذه المؤشرات لن تتحسن من تلقاء نفسها ولكن فقط بالطاقات البشرية المؤهلة. خرج اسكينازى من مصر وكنا يومئذ ننافس كوريا الجنوبية،بل ونتفوق عليها فى كثير من مؤشرات التنمية الشاملة، وعاد شئ من أثره فى هيئة علب للدواء لعلاج 14% من الشعب المصرى أصابهم فيروس سى، الذى أنتجه التلوث وتراجع كافة مقومات الصحة العامة. التنمية الاقتصادية يجب أن تبدأ من البشر، فمجانية التعليم يجب أن تكون شاملة فى حدّها الأدنى وانتقائية تنافسية فى درجات التعليم المتقدمة، ولن تتحقق دولة الرفاهة أبداً فى دولة من أنصاف المتعلمين، أو أنصاف الأصحّاء، والحديث عن هذا يطول ولنا معه كتابات كثيرة.

مشاركة :