الدكتور مدحت نافع يكتب لـ "بوابة الأهرام".. أبو حفيظة يعتذر!

  • 11/11/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

مازالت قناعتنا لم تتغير أننا شعب يحب الفكاهة ويتسامح مع المزاح، لكن هذا غير صحيح، ففى السنوات الأخيرة ظهرت دعوات جادة للقصاص من عرائس وشخصيات كرتونية لأنها تخالف شرع الله! ودعوات أخرى تزعم أن تلك الشخصيات هى محض مؤامرة صهيوأمريكية هدفها زرع الفتن وهدم الوطن!.. لكن أحدث تلك الدعوات هى المطالبة باعتذار شخصية كاريكاتيرية اسمها أبو حفيظة لأن صاحبها تعرّض للتليفزيون المصرى بالسخرية فى إحدى حلقاته الهزلية!!. فن الكاريكاتير عامة يقوم على تضخيم العيوب والمبالغة فى تناولها من أجل إظهار المفارقات، شخصيات برنامج أبو حفيظة بنيت على هذا النحو، لذا فمن المتوقع أن تلجأ إلى المبالغة فى تصوير أزمة التليفزيون المصرى والتى من العبث الزعم بأنها غير موجودة. أما عن حجم تلك الأزمة فبالطبع يختلف لدى تناولها فى مقال عن طرحها فى برنامج جاد أو طرحها فى برنامج ساخر. إذن تغير المزاج العام لقطاعات كبيرة من الشعب لم يعد تحتمل المزاح، لكن المشكلة التى أثارها موضوع أبو حفيظة أكبر من هذا بكثير، ويمكن تقسيمها إلى أكثر من عنصر: أولاً: الإدارة الاقتصادية للتليفزيون المصرى ثانياً: فزاعة المساس بالأمن القومى ثالثاً: حدود الكلام المباح وكيفية استثمار النقد أما عن الإدارة الاقتصادية لماسبيرو فلا يخفى على أحد أنها تمر بصعوبات بالغة، فالجهاز الذى يعمل به زهاء الأربعين ألف موظف لم يعد يعمل بكفاءة عالية، لست فى حاجة إلى درجة فى الاقتصاد حتى تصل إلى تلك النتيجة، فقط عليك أن تلاحظ حجم ونوعية الإعلانات التى تتخلل برامج التليفزيون المصرى ثم تسأل فى محيط معارفك عن نسب المشاهدة لتلك البرامج. أما إذا أسعدك الحظ وكنت من مرتادى مبنى ماسبيرو، فسوف تتوقف كثيراً عند ضعف البنية الأساسية، وتدهور حالة السيارات التى تجاوزت تاريخ الإهلاك بسنوات، وأصبحت تكلفة تسييرها من مصروفات الصيانة وحرق الوقود أعلى من استبدالها، سوف تتوقف عند دورات مياه بالية تطل بوجهتها على نهر النيل واستوديوهات تصوير بلا أطلالة بل وبلا نوافذ أيضاً! سوف تتوقف عند مصاعد تعمل بأقصى طاقتها ومع ذلك لا تفى بحاجة الموظفين والزوّار. لكنك أيضاً سوف تتوقف أمام نموذج فريد من الطاقات والموارد غير المستغلة، عند حرفية عالية لنخبة من المذيعين وأطقم الإعداد فى قطاع الأخبار، عند إدارة مخلصة من شخصيات محترمة مثل الأستاذة صفاء حجازى تعمل فى أصعب الظروف وتعنى بتطوير المهارات الحوارية والبحثية لفرقها، ومثلها كثر، سوف تتوقف عند استوديوهات فارهة لا تجدها فى أكبر قنوات مدينة الإنتاج الإعلامى، وأدوات تصوير وفنيّات حديثة نادرة الوجود خارج مبنى ماسبيرو، عند تاريخ طويل لعلامات مسجّلة، عند دعم من الدولة يمكّن هذا التليفزيون من تحقيق السبق والتغطية الحصرية، يعطى لموظفى التليفزيون امتياز الدخول فى أى مكان، وإجراء حوارات مع أى مسئول، والتمرّكز فى رئاسة مجلس الوزراء وغيره من جهات تصنع فيها الأخبار. قدّرت موازنة الهيئة القومية لاتحاد الإذاعة والتليفزيون للسنة المالية 2015 /2016 بنحو 11.5 مليار جنيه بلغت المصروفات المتوقعة نحو 5.9 مليار جنيه وبلغت الإيرادات 1.7 مليار فقط أى أن عجز النشاط المتوقع يزيد علي 4 مليارات جنيه! بند الأجور وحده يصل إلى 2.1 مليار جنيه، الخزانة العامة للدولة تساهم بنحو 1.7 مليار جنيه كإيرادات رأسمالية، بنك الاستثمار القومى يقرض التليفزيون 200 مليون جنيه لذات العام المالى!. كل هذا الدعم وتلك الموازنة الضخمة لن يكون استغلالهما جيداً إذا تم التعامل مع التليفزيون باعتباره مصلحة حكومية تغص بموظفين! التليفزيون يجب أن يقدّم علماً وفناً وترفيهاً ويزخر بمهارات لا تتوافر فى الموظف التقليدى.. صحيح أن تكدّس العاملين بأسلوب ضمان الوظيفة الميرى واستغلال الواسطة لنيلها تم عبر تاريخ طويل، ولا يمكن أن تسأل عنه الإدارة الحالية، لكن هذه الإدارة مسئولة الآن عن تحويل تلك التحديات إلى فرص، وعن الاستغلال الأمثل لمواردها البشرية قبل الفنية والمالية. تماماً كما ننادى باعتبار الكتلة السكانية فى مصر فرصة وليست عبئاً على الوطن. لكن الإدارة الاقتصادية الجيدة للتليفزيون باعتباره مرفقاً اقتصادياً تتطلب تضحيات وقرارات اقتصادية مكلّفة، سوف تصطدم دائماً بفزاعة الأمن القومى! تقييم أداء التليفزيون لن يخضع إذن إلى معايير السوق، لن يقاس بنسب المشاهدة وحجم الإعلانات والبث الحصرى.. بل سوف يعتمد التقييم على تقارير موظفين تفيد بأنه حقق الغرض منه لصيانة الأمن القومى!! حتى إذا سلّمنا بجدوى الإرشاد والتوجيه من الدولة الذى عفا عليه الزمن، فإن هذا الإرشاد يحتاج أيضاً إلى تسويق..إلى زبائن..إلى مشاهدين، وهنا تكمن الأزمة. إذا ارتبط التليفزيون بالأمن القومى واتسعت دائرة المحظور والممنوع من النقد لتشمل قطاعاً مدنياً يهدف أساساً إلى الربح فكيف يمكننا استثمار النقد لتطوير أنفسنا؟ ما هى حدود الكلام المباح إذا لم يكن بمقدور دافع الضرائب السؤال عن مصارف أمواله؟! التليفزيون يحقق خسائر كبيرة إذن لكنه مستمر فى الحصول على الدعم من الدولة (بل من جيب المواطن) فقط لأن استمراره مسألة أمن قومى!. التعامل مع حلقة أبو حفيظة كان يجب أن يأخذ شكلاً مختلفاً، كان يجب أن يتحول إلى دافع للتليفزيون كى ينافس برامج الفضائيات ذات الشعبية الواسعة، ليحقق نسب مشاهدة تنافسية وإيرادات أعلى تجتذب الكفاءات من كل مكان. التليفزيون يملك المقوّمات لكنه لا يستطيع المنافسة فى سوق تحكمه قواعد مختلفة عن قاعدة الأمن القومى وتوفير فرص عمل لفتح البيوت!. البداية يجب أن تكون بإصلاح مؤسسى شامل، وبتطبيق إطار عام لإدارة المخاطر المؤسسية فى ماسبيرو (الأمر ينطبق على الإذاعة أيضاً)، بوضع الضوابط الرقابية الحاسمة التى تحول دون قيام بعض العاملين فى القطاع الاقتصادى مثلاً بتطفيش المعلنين بغرض اختطافهم لقنوات فضائية يعملون لديها من الباطن نظير عمولة، ضوابط تحول دون تراكم موظفى الخدمات المعاونة على الورق فقط، بينما يعمل الكثيرون منهم فى القطاع الخاص لأن وظائفهم فى الحكومة بمثابة بطالة مقنّعة، ضوابط تساعد على وقف الهدر واستغلال الموارد بكفاءة واستعادة السمعة الطيبة والبناء على المزايا التنافسية للتليفزيون.. ضوابط تحول دون تحوّل بعض المخرجين إلى الأعمال الحرة لأن التليفزيون لا يحتاج إليهم سوى ساعتين فى الأسبوع! ضوابط تحدد المعايير المناسبة للإعلانات التى تعرض على شاشة التليفزيون الذى ترعاه الدولة وألا يكون من بينها إعلانات النصب بـ0900 وتحميل أغنيات رديئة على الهواتف النقالة.. وغيرها من مواد رديئة المنتج ورديئة العرض التسويقى معاً. أعرف من العاملين فى التليفزيون من سعدوا بنقد أبو حفيظة باعتباره جرساً مزعجاً لجذب الانتباه إلى أزماتهم، أعرف أيضاً من آلمته الغيرة على مكان عمله وسمعة هذا الجهاز العريق وله كل الحق، لكن الألم وحده يوقظ الحواس والنفخ فى الصور يحيي الموتى ولله المثل الأعلى.

مشاركة :