يحتضن مركز الفن المعاصر جورج بومبيدو بباريس معرضا للفنان جورج باسيليتز الذي يعتبر من أهمّ الفنانين الألمان، إلى جانب زميله مارك لوبتيز، بعد الحرب، وإن كان يختلف عنه بطبعه الحامي وتمرّده منذ شبابه على الوضع القائم، سياسيا وثقافيا وفنيا، حتى أنه صرّح ذات مرة بألاّ وجود لفن ألماني جدير بمنجز سابقيه قبل الحرب. اسمه الحقيقي هانس جورج كيرن، استمد اسمه الفني منذ عام 1961 من بلدة دوتشباسيليتز قرب درسدن بألمانيا الشرقية حيث رأى النور في مطلع العام 1938. واجه في بدايته صعوبات جمّة وأدّى به نقده للأوضاع السياسية في ألمانيا الشرقية إلى رفته من مدرسة الفنون الجميلة ببرلين الشرقية عام 1957، ما اضطره إلى الانتقال إلى برلين الغربية ليواصل تكوينه. وقد انطبعت أعماله الأولى في ظل الانقسامات الأيديولوجية السائدة في ذلك الوقت بروح التمرّد التي تسكنه، والثورة على الأساليب الفنية المتداولة في ألمانيا، لاسيما بعد اطلاعه على تجارب الأميركيّين دو كونينغ وبولوك. وكان يقول “الفن هو عمل الأناركيين والمتمرّدين والذين لا جدوى للنظام منهم. ما يعني أن الفنانين، في الظرف الاجتماعي، هم قبل كل شيء منبوذون”. والمعرض يقدّم مسيرته التي تمسح نحو ستين عاما وفق مسار كرونولوجي حتى يتبيّن الزائر مراحل تطوّر فنه، من لوحاته الأولى في الستينات إلى سلسة “أبطال”، ومن تشكيلاته المتشظية إلى موتيفاته المقلوبة، مرورا بسلسلة متعاقبة من الأعمال التي يجرّب فيها باسيليتز تقنيات تشكيلية جديدة، مستوحيا من تاريخ الفن مرجعيات حميمة بالنسبة إليه، ولاسيما تجارب إدفارد مونك وأوتّو ديكس وفيليم دو كونينغ. ولذلك ما فتئ يتنقّل بين التصويرية والتجريدية والمقاربة المفهومية، ليصوغ آثارا مستفزّة عنيفة وحيّة في الوقت نفسه، سواء في الرسم أو في النحت. وكل لوحة تعكس مرحلة جوهرية من مراحل تجربته، فالشجرة كانت ثيمة أول صورة مقلوبة، والروميكس كانت استعادة لرسوم فضائحية أنجزها في السبعينات، وكذلك الليلة الكبرى وسلسلة سيغموند فرويد. وقد عبّر عن تنوّع تجربته بنفسه، حيث صرح “أنا فنان متكلّف، متأنق، بمعنى أني أحوّر الأشياء. أنا عنيف وساذج وقوطي”. بعد لوحاته الأولى التي عبّر فيها عن إرثه التعبيري، شرع في تفكيك قواعد التمثل الكلاسيكي، فبدأ بتشظية مواضيعه قبل أن يقرّر رسمها بالمقلوب منذ عام 1969 في حركة راديكالية قصوى هزّت تاريخ الفن لمدة طويلة وأكسبته شهرة عالمية، وبصمة صار يعرف بها. فمنذ أواخر الستينات، بدأ بقلب لوحاته، وجعل يرسم الوجوه والبورتريهات مقلوبة، حتى صارت علامته المميزة. وكان الغرض منها أولا التأكيد على أولوية الرسم الخالص على الموضوع، وإلغاء الحدود بين التصوير والتجريد؛ وثانيا مساءلة جوهر الفن التشكيلي، حيث عُدّت تلك التجربة خطوة محتشمة نحو التجريدية لدى ذلك الفنان الذي اعتبر أن ألمانيا هي بلد أكثر اللوحات الفنية قبحا. ثم قام بتبسيط مواضيعه إلى الحدّ الأدنى متحدّيا الرسم التجريدي السائد وقتها، وبلغ به الاندفاع إلى تحدّي حتى الفنانين الذين يعشقهم مثل بيكاسو ودو كونينغ، فجعل من مغامرته التشكيلية مشروع تجديد عنيف بانتهاك المحظورات الجمالية في عصره، وخاصة في مجال النحت الذي استهله في بداية الثمانينات، حيث درج على استعمال الفأس وآلة تقطيع الخشب والمعادن، ليستعيد في وجه من الوجوه منطلقات الحركات الطلائعية التاريخية، إذ قدّم منحوتات ذات حضور ضخم، إضافة إلى تعدّد الكروم الذي يحيل على تقاليد النحت القروسطية، والفنون الأولى أو البدائية، ولاسيما الفنون الأفريقية. فقد تأثّر بتلك الفنون في ممارسة النحت على الخشب، لما في ذلك المحمل من إمكانية التعبير عن عنف العالم المعاصر، ومن ثمّ كانت منحوتاته مشوّهة، مبتورة، متشظية هي أيضا، ووجوهها تحمل آثار عنف وجروح وصدوع وندوب. وقد قال في هذا الصدد “أعتقد أن النحت طريق أكثر مباشرة من الرسم للوصول إلى نفس النتيجة، لأن النحت أكثر بدائية وأكثر عنفا وأقل تحفظا من الرسم أحيانا”. يقول باسيليتز إنّه يرسم صورا لم توجد بعد، ويعيد إلى الحياة ما تمّ لَفْظُه سابقا. وآثاره المتصلة اتصالا وثيقا بمعيشه وخياله تكشف عن تساؤلات حول إمكانات تمثل الذكريات، وتنويع التقنيات والموتيفات التقليدية والأشكال الجمالية المتعاقبة على مّر تاريخ الفن، إلى جانب الشكليات المفروضة في مختلف الأنظمة السياسية والمنظومات الإستيتيقية خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، وتبيّن صعوبة أن يكون الفرد فنانا في ألمانيا ما بعد الحرب. وجملة القول إن باسيليتز هو أحد الفنانين المعاصرين القلائل الذين تجذّروا بعمق في تاريخ الفن الأوروبي المعاصر، فهو مخترع لغة أيقونية تصويرية حديثة تعتمد على ذخيرة غنية من العناصر الأسلوبية، وإن اكتست أعماله التشكيلية أحيانا معنى قابلا لأكثر من تأويل، يصل إلى حدّ التناقض، فضلا عن الرؤية المخصوصة التي يحملها عن بلاده.
مشاركة :