ربات البيوت المبدعات يتحررن من الانغلاق في معرض باريسييحتضن متحف “العملة” بباريس حتى موفى شهر يناير المقبل، معرضا فنيا فريدا يضم أعمالا متنوعة لنساء كنّ حبيسات البيت، اضطرارا أم اختيارا، ليس لهنّ من نشاط سوى القيام بشؤون البيت، فتمرّدن على طريقتهنّ ليعبّرن، كلّ واحدة على طريقتها، عن مواهب كامنة.العرب أبو بكر العيادي [نُشر في 2017/11/06، العدد: 10804، ص(16)]العنكبوت بيت يحمي السيدات لم يكن طريق المرأة إلى الفن بعامة والأدب بخاصة في أوروبا سالكا، فقد ظل الأدب مثلا حتى مطلع القرن الماضي حكرا على الرجال وحدهم، والأصوات النسائية القليلة التي هتكت حجاب الصمت قوبلت بما يقابل به الخارج عن الصفّ، حيث كان الرأي حولها متعاليا، منكرا عليها امتلاك تلك الموهبة. حصل ذلك حتى في عهد الأنوار، فقد كان رأي روسو أن “المرأة تدرك كل شيء ولا تحتفظ بأي شيء”، وكذلك ديدرو الذي اعتبر أن “العدد القليل من النساء النابغات شاذّ وليس قاعدة”، وزاد عليهما فولتير بأن قال “توجد عالماتٌ مثلما وجدت من قبل محاربات، ولكن لم توجد قطّ مبدعات”. والحقيقة أن قلةَ من جرّب الكتابة من النساء لا تفسّر بقصور خَلقي، وإنما بطبيعة الأوضاع التي كانت تعيشها المرأة في المجتمعات الغربية. تقول فرجينيا وولف “كان يعوز الموهوبات من النساء، لتأكيد نبوغهنّ، موردُ عيش، وفسحةٌ من الوقت، وغرفةٌ خاصة”. والدليل أن بعض النساء اللاتي توافرت لديهنّ تلك العناصر أبدعن أعمالا لافتة، وكانت وولف قد شجّعت النساء في كتابها “غرفة خاصة” عام 1929 على حيازة غرفة يمكن غلقها بالمفتاح دون أن يأتي من يزعجهنّ. هذه اللحظة المؤسسة هي التي ينطلق منها معرض “ربّات البيوت” المقام حاليا بمتحف “العملة” الباريسي، وفق ثيمات محددة للوصول إلى المرحلة الحديثة، مرورا بسبعينات القرن الماضي، حين تمرّدت النساء على حرمانهنّ من فضاء للعمل والعرض، وعدم الاعتراف بهنّ فناناتٍ هنّ أيضا، لهنّ ما للرجال من مواهب، كحال الأميركيتين ميريام شابيرو وجودي شيكاغو، مديرتي برنامج الفن النسائي بمعهد الفنون الجميلة في كاليفورنيا، فقد تعذر عليهما عام 1972 الحصول على مقر لإلقاء دروسهما، ما دفعهما إلى إقامة معرض “ربّات البيوت” الذي مثّل منعرجا حاسما في تاريخ الفن النسائي، ذلك أن الفضاء العام ظل ذكوريا على الدوام، بينما كان فضاء البيت ملاذا للنساء.أعمال تقطع من النظرة الذكورية الدونية لإبداعات المرأة والسؤال الذي يطرح من خلال المعرض هو معرفة ما إذا كانت المرأة في البيت أشبه بحبيسة سجن لا تتخطى جدرانه، وكيف كانت تقضي أوقاتها داخله؟ لم تكن تلك الحقيقة التاريخية ذات أثر سلبي على كلّ النساء، مثلما تدل الأعمال المعروضة لأربعين فنانة من بلدان مختلفة، فلئن كان البيت لدى بعضهنّ رمزا للانغلاق، فهو بالنسبة إلى الأخريات مصدر إلهام وتجدد، حيث يغدو الحميم لديهنّ شأنا عاما، وحتى نقدا اجتماعيا وسياسيا، إذ إن قوة الخلق لديهنّ تهز البيت رأسا على عقب وتتجاوز قيود المجتمع وأغلاله لتعبّر عن رؤية أخرى للعالم، ولا يهمها أن تأتلف برؤية الرجل أو تختلف عنها. كذا الطلائعية النمساوية بيرجت يورغنسن (1949-2003) التي جعلت في سبعينات القرن الماضي من المرأة “بيتا جسدا”، حيث يلتحم المطبخ بثياب المرأة الموثَقة بوظائفها الاجتماعية، والفرنسية لويز بورجوا (1911-2010) في سلسلة “امرأة – بيت” وهي عبارة عن شخصيات نسائية تبدو أجزاء من أجسادهنّ محبوسة داخل بيت، أو في منحوتة “العنكبوت” التي تحتل بمفردها إحدى القاعات، والتي قالت عنها المفوضة كميليا مورينو “هي أيضا بيت يحمينا”. والأعمال المعروضة ليست ذات طابع أنثوي خالص على غرار مسلسل “النساء اليائسات”، بل هي تعبير عن إرهاصات الحركات النسوية بمختلف مكوناتها، منها ما تحلى بنفس شاعري كلوحة “غرفة خاصة”، ومنها ما اتخذ سمة التنديد السياسي كلوحة “بيت متنقل” ومنها كذلك ما يعكس ملمحا نوستالجيا كـ”بيوت الدمى”. يحتوي المعرض إذن على أعمال لأربعين فنانة من مختلف القارات ومن شتى الأجيال نخص بالذكر منهنّ الفرنسية كلود كاهان (1894-1954) من الجيل الأول، والمكسيكية بيا كاميل، والإيرانية نازغول أنصارينيا، والبرتغالية جوانا فاسكونسيلوس، والألمانية إيسا ميلسهايمر، والفرنسيتان لور تيكسييه وإلسا ساهال… من الجيل الجديد. وبالإضافة إلى الأسماء المعروفة التي سجلت حضورا لافتا في الساحة الفنية منذ أعوام، كالفرنسيتين لويز بورجوا، ونكي سان فال، والأميركيتين مارثا روسلر، وسيندي شيرمان، والفلسطينية منى حاطوم، والإنكليزية راشيل وايتريد، تبرز أسماء أخرى طواها النسيان، قبل أن يعيدها إلى الذاكرة مؤرخون جادون، نذكر من بينهنّ البرتغالية أنا فييرا (1940-2016) والسويسرية هايدي بوخر (1926-1993). وحرص المنظمون على جعل المعرض أقرب ما يكون إلى مسيرة المرأة في القرن الماضي، من وضعها كربّة بيت، تهتم بتصريف شؤونه، وتزجي الوقت، حين يكون لها ما تزجيه، في ممارسة عمل فني، إيمانا بموهبة، أو تعبيرا عن حالة نفسية، أو تعلقا بهواية، إلى تطورها وتفتحها وحصولها على حقوق كثيرة، من بينها حقها في ممارسة إبداعها حيثما تشاء، لتحقق انفتاحها على العالم بالكامل. يذكر أن هذا المعرض سينتقل، بعد محطته الباريسية، إلى المتحف الوطني للنساء المبدعات في واشنطن بداية من شهر مارس 2018.
مشاركة :