معرض "البيت الأحمر" الباريسي يصل الدنيا بالآخرة بقلم: أبو بكر العيادي

  • 9/18/2017
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

معرض البيت الأحمر الباريسي يصل الدنيا بالآخرةيحتفي “البيت الأحمر” بباريس بأعمال من ثقافات وعصور مختلفة، تقوم على النسج والضفر والعقد والربط والزرد في معرض بعنوان “إينكستريكابليا، تشابكات ساحرة”، يجمع بين الفن المقدّس والفن الخام والفن المعاصر، وتتجلى فيه قدرة الفنان القديم والمعاصر على تطويع الخيوط والأسلاك والأقمشة والأعواد والألياف لخلق منحوتات ومشخصات عجيبة.العرب أبو بكر العيادي [نُشر في 2017/09/18، العدد: 10755، ص(16)]منحوتات ومشخصات عجيبة يطمح معرض “إينكستريكابليا” الذي يقام حاليا برواق “البيت الأحمر” الباريسي إلى جمع أعمال نسيج متأتية من بيئات وثقافات ومراحل مختلفة، تلتقي في كونها متشابكة بشكل يستعصي على الحل، وتشمل شريحة عريضة تمتد في الزمان والمكان، من التمائم الأفريقية إلى المنحوتات الحديثة، مرورا بصناديق من القرن السابع عشر تضم رفات بعض القديسين. والأعمال المعروضة، سواء أكانت مربوطة أو مضفورة أو معقودة أو مطرّزة، تشكل شبكة واسعة تتجاوز حدود الفن الخام والفن المعاصر أو الفن المقدس، لأنها تثير الدهشة أو الإعجاب أو الحيرة والاضطراب، فتبدو، رغم اختلاف أشكالها البيّن، كأنها تعبير عن رباط روحانيّ عميق. وتشمل المدونة المعروضة أعمالا لما يزيد عن خمسين فنانا منهم المعروف أمثال بييريت بلوك، وكاترين بوش، وأنطونيو دالا فالي، وهيدي دوبرون، وإريك ديتمان، وشين تزين، وجوزيبي فرسينو، ومان راي، وآنّيت ميساجيه وشيلا غودة، ومنهم المجهول الذي لا نعرف عنه إلاّ آثاره المحفوظة في بعض المتاحف الأوروبية والأميركية كمتحف رصيف برانلي ومتحف الإنسان بباريس، ومتحف لوزان بسويسرا، ومتحف بار للفن في مونتينغرو، إلى جانب أعمال من تشكيلات عامة وخاصة، ولا سيما تشكيلات مستشفيات الأمراض العقلية في كل من فرنسا وسويسرا وإيطاليا والمجر. لا شيء في الظاهر يربط دمية من الفن الخام للأميركية جوديث سكوت بمنحوتة عِرافة وتنجيم كونغولية، أو بمعطف البرازيلي بيسبو دو روساريو (الذي نسجه من غطاء مستشفى للأمراض العقلية كان نزيلا به، وقال إنه أعدّه لملاقاة ربّه يوم الحشر)، ولكن تلك الابتكارات لها علاقة وطيدة بعضها ببعض من خلال المواد، سواء أكانت نباتية أم عضوية أم معدنية، ومن خلال التقنيات المستعملة، كالربط والضّفْر والعَقد لألياف وأعواد وأسيار من الجلد وأسلاك من الذهب أو النحاس وقطع من القماش.آثار فنية تثير الدهشة والحيرة والاضطراب تلك المواد المجمّعة في أشكال متشابكة تؤلف أشياء بالغة الرمزية، فالتشابه بين القطع ليس شكليا وأسلوبيا فحسب، بل يحمل في طياته أيضا قيما مطهرة من الذنوب أو واقية من الشرور، أي أنها تعلب دورا روحانيا أو دينيا أو سحريا بالمعنى المتداول لدى القبائل البدائية، وكأن مبدعيها يبحثون عن إقامة صلة بين الدنيا والآخرة، ليضفوا بعدا رمزيّا على المعيش اليومي. وسواء أكانت الألياف تَربط أو تَحبس، تَعقد أو تَنسج ما يحتوي عليه الأثر أو يخفيه، فإن المنسوجات المختارة هنا لها صلة قرابة لا تنكر، رغم المسافات والأعوام وحتى القرون التي تفصلها بعضها عن بعض، ورغم تباين الثقافات والمعتقدات التي ينتمي إليها أصحاب تلك الأعمال. والتشابه بينها كبير من جهة التقنيات والأساليب والأشكال، ومن جهة أبعادها الروحية وقابليتها لأن تكون تمائم. من ذلك مثلا منحوتة جوديث سكوت، التي أنجزت في نيويورك، فهي تشبه إلى حدّ بعيد حزمة من ألياف نباتية كونغولية، فيما تبدو منحوتة أخرى من صنعها شبيهة بنُصيْب “فودو” من بِنين ونُصيبٍ آخر من قبائل نكيزي بالكونغو، والثياب التي نسجها الأسكتلندي جوش ماكفي قريبة جدا من ملابس الأفراح في أنغولا. والطريف أن هذا التناظر بين أعمال من الفن المقدّس والفن المعاصر، بين آثار شعبية ومنحوتات إثنوغرافية وأخرى من الفن الخام يبدو حاضرا حتى خارج التصنيفات والمراحل التاريخية والمجتمعات، ما يعني وجود مبادئ مشتركة، برغم البعد، دون أن يكون ثمة ما يدل على اتصالات مسبقة بين هذا الطرف أو ذاك، أو يشهد باطلاع ما على تجارب الأمم النائية، وهو أمر كان نبّه له عالم السلالة كلود ليفي ستراوس حين أكّد في كتابه “النيّئ والمطبوخ” إن الأساطير ترسم لها تصورا داخل البشر دون وعي منهم، فهي ترسم فيما بينها. وفي رأيه أن بعض الرموز وبعض العناصر تنتشر من ثقافة إلى أخرى داخل الابتكارات الرمزية، كما أن رجع الأصداء التي نلمسها بسهولة بين منحوتات السويسري مارك موريه والبلجيكي بيتر بوغنهو وبين مشخصات الفرنسية لويز بورجوا والألمانية كتارينا ديتزل (وكانت هي أيضا نزيلة مستشفى للأمراض العقلية)، وكذلك توليفات الرهابنة والشامان، أي المشتغلين بالعرافة والسحر، يمكن تفسيرها كما قال ليفي ستراوس بوجود ذخيرة واسعة، على غرار العناصر الكيماوية، تتكون من تشكيلات مؤسِّسة للثقافات “تبدو فيها كل العادات الواقعية أو الممكنة مجتمعة داخل عائلات، فلا يبقى أمامنا إلاّ التعرف على المجتمعات التي تبنّتها بالفعل”. بيد أنه من التعسف أن نبحث هنا عن مبادئ كونية تستجيب لنماذج محددة، لتباين الظروف والوظائف والرهانات الخاصة بمختلف تلك التعابير الفنية، فما هي في النهاية إلاّ روافد تجمعت في فكرةِ تواصل، يتلمس من خلالها الزائر نقاط التماثل في أعمال متنوعة المشارب والمطامح والمطارح، وحسب الزائر أن يكتشف ألوانا من ابتكارات الإنسان، في حالاته الشعورية واللاشعورية.

مشاركة :