تُعد الأسرة أقدم مؤسسة اجتماعية عرفها الإنسان خلال مسيرته الطويلة، وهي المصدر الأول للمعرفة والتربية والتوجيه والأمن والاستقرار، وصلاحها يُمثل صلاحاً للمجتمع بأكمله. وبعيداً عن متاهات وفخاخ التعريفات والتوصيفات لهذا المكوّن الأساسي في جسد الأمة، تكمن الأهمية وخطورة الأسرة في كونها أول لبنة حقيقية في بناء المجتمع، ومصدر تحقيق وظائف ورغبات الإنسان الفطرية كالبقاء والاتزان والتعاطف والتفاعل، والبداية الحقيقية لاكتساب الفرد ميوله واتجاهاته وسلوكياته وشخصيته، والمدرسة الأولى التي تُعلّم أفرادها كيفية التعامل والتفاعل الاجتماعي لتضمن لهم حياة آمنة ومستقرة وفاعلة في المجتمع الذي ينتمون إليه. والأسرة، هي المدرسة التي يتعلم فيها الطفل هجائية الحياة، باعتبارها المقر الأهم لضبط السلوك وتقويم الأخلاق، بل هي العمود الفقري للبناء الاجتماعي للوطن، وكلما كانت الأسرة قوية ومتماسكة ومترابطة وفاعلة، كان الوطن أكثر قوة ومنعة وحضوراً وازدهاراً. وتواجه الأسرة الحديثة صعوبات وتحديات كبيرة وكثيرة جداً، تؤثر سلباً في قدرتها الحقيقية على ممارسة وظيفتها الأساسية التي تتطلبها ظروف وطبيعة هذه المرحلة الزمنية الحرجة، وهي تربية أفرادها وتنشئتهم وتهيئتهم بطرائق وأدوات وأجواء صحية وسليمة ومتسامحة لكي تعدهم لمواجهة هذه الحياة الحديثة بكل تطوراتها وتحولاتها وتقلباتها التي تتسارع بشكل ديناميكي خطير للغاية، لا يترك متنفساً لالتقاط الأنفاس، لمتابعة عملية التطبيع الاجتماعي الذي تُمارسه الأسرة لنقل الأفكار والقيم والسلوكيات التي تتفق - في بعض الأحيان طبعاً - مع الواقع الديني والثقافي للمجتمع. ولا يمكن للأسرة الحديثة أن تُمارس وظيفتها الرئيسة وهي صنع الأجيال المتعاقبة التي تقع عليها مسؤولية دفع عجلة التنمية والنهضة التي يحتاج إليها الوطن، إلا إذا تجاوزت تلك الأسرة دورها المتمثل في تحديد خصائص أفرادها البيولوجية والعضوية، إلى مساحات وفضاءات أكثر بكثير من كل تلك الخصائص الوراثية، تتمثل في إعداد وتدريب أفرادها وتوجيههم ومراقبتهم لمواجهة الحياة الحديثة التي تُعاني من الاضطراب والتقلّب والتغير بشكل متسارع وخطير، وهذا لن يكون إلا إذا كانت الأسرة في الأساس متسلحة بالعلم والمعرفة والثقافة، وتملك مخزوناً من القيم والأخلاقيات والسلوكيات كالتسامح والقبول بالآخر والإيمان بمبدأ الشراكة بين مكونات وتعبيرات المجتمع والنظرة السليمة للآخر - مهما كان هذا الآخر - باعتباره الجزء المكمل للمشهد الأممي. وبعد هذا السرد الطويل نسبياً حول أهمية ومكانة وخطورة الأسرة، يقفز هذا السؤال الذي يبحث عن إجابة: هل تقوم الأسرة السعودية بدورها الحقيقي في إعداد وتعليم وتثقيف وتدريب وتقويم ومراقبة أفرادها لينشئوا بشكل متزن وطبيعي يضمن لهم عدم الانزلاق للأفكار والسلوكيات المنحرفة وعدم الانقياد لدعاة التحريض والتعبئة الطائفية؟. في المقال المقبل، سأحاول ما استطعت الإجابة عن هذا السؤال الملتبس، وذلك من خلال التركيز في أهم خمس تحديات تواجه الأسرة السعودية.
مشاركة :