مشروع تطوير القضاء لا يقتصر فقط على عمل إصلاحات هيكلية وإدارية وتقنية في المؤسسات القضائية وإنما يشمل أيضا إصدار وتحديث القوانين التي تحكم الخصومات المعروضة على القضاء، لأنه لا يتصور أن تُشيّد محكمة حديثة مجهزة بآخر ما توصلت له التقنية من امكانات يديرها قضاة صرفت مبالغ طائلة لتأهيلهم وتدريبهم على إدارة الخصومة القضائية بشكل محترف وحضاري ومع ذلك لا توجد المادة الأساسية في تلك المعادلة وهي تشريعات حديثة عصرية مكتوبة تحكم الخصومة من حيث الموضوع، ومن هناك تكمن أهمية المدونة القضائية التي دُشّن العمل على إنجازها في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله من خلال لجنة شرعية وقضائية شُكلت لهذا الغرض واستمرت أعمالها بذات الزخم في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، حيث إن هذه المدونة القضائية ستساهم في فصل نقاط الالتماس ما بين المؤسسة التشريعية والقضائية، فهناك مؤسسة تشريعية تصدر الأنظمة، وهناك مؤسسة قضائية مستقلة عنها تطبق تلك الأنظمة على القضايا المطروحة بين يديها، فلا يمكن لمؤسسة منهما أن تحتكر السلطتين. المدونة القضائية ستكون عوناً للقضاة لمعالجة قضاياهم بالسرعة التي تقتضيها الفكرة الأساسية من مشروع تطوير القضاء وهي (العدالة الناجزة) فلا حاجة للقاضي ان يستهلك وقته في البحث والترجيح وإنما ينصب عمله على وظيفته الأساسية التي تتمثل في تكييف القضية المعروضة على منصته وتطبيق النص النظامي المتوائم مع وقائعها وتفاصيلها، ومع تراكم الخبرة لدى القاضي سيكون إنجازه اسرع لأنه ليس بحاجة إلى البحث والتنقيب في أمهات كتب المذهب في كل قضية ينظرها لذا سينكعس ذلك على (جودة) الأداء القضائي ومتانة أحكامه. وباعتقادي أن الأهم من تدشين المدونة القضائية هو إلزام القضاة بالحكم بناءً على أحكامها بلا استثناء، وعدم جواز الخروج عنها وذلك من خلال ترسيخ مبدأ قضائي من الجهات القضائية العليا وتطبقه جهات التفتيش القضائي؛ بأن الخروج على أحكام المدونة المقرة من الدولة؛ يعد افتأتا على سلطة من له البيعة، والذي يملك سلطة تعيين القضاة وعزلهم ويملك أيضا تحديد النطاق الزماني والمكاني والموضوعي لممارستهم لسلطتهم القضائية والتي يفقدونها بمجرد الخروج عن المحددات التي رسمها من في اعناقنا بيعة له، فلا يتصور مثلا ان قاضيا معينا في القصيم يستطيع ان يصدر احكاما قضائية في الرياض دون صدور وثيقة قانونية تعطيه الولاية القضائية خارج منطقة تعيينه، الأمر نفسه في الجانب الموضوعي؛ فإذا أصدرت الدولة مدونة وألزمت القضاة بالحكم بها؛ فإن أي حكم خارج أحكامها يعد خروجاً عن الولاية القضائية للقاضي، إذا طبق ذلك المبدأ فإن المدونة ستؤتي أكلها، أما إذا كان الأمر غير ذلك فستكون في خانة التخمة التشريعية التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً.
مشاركة :