تقلبات سنوات المراهقة في 'قصتي الحقيقية'

  • 3/30/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يقود الروائي الأسباني خوان خوسيه مياس أبطال روايته "قصتي الحقيقية" إلى رسم الخط الفاصل بين الواقع والخيال بطريقة غير واعية، ويجبرنا كقراء، على محو الحدود بين الحياة والخيال، وإعادة التفكير في مقدار الارتباك والغموض الذي كان لدينا في مراهقتنا، وكم من الارتباك والغموض لا يزال لدينا اليوم، لأنه كما يعلق هو نفسه "أعتقد أن المراهقة لا تخرج أبدا". الراوي في"قصتي الحقيقية" التي ترجمها الروائي أحمد عبداللطيف وصدرت عن دار المتوسط، هو مراهق يبلغ من العمر اثني عشر عامًا مثل أي شخص آخر، مع مخاوفه وانعدام الأمن والرغبات في تجارب جديدة. ذات يوم قرر الانتحار فصعد على جسر بالقرب من بيته، وذلك بعد عودته من المدرسة، يمر تحت هذا الجسر طريق سريع، ربما حركة السيارات ذهابا وإيابا جعلته يقرر عدم الانتحار، أو ربما رميه للـ "البلية" كان قد التقطها من فناء المدرسة وتسببت في حادث مروري مروع، هذا الحادث الذي أنهى حياة أسرة بأكملها باستثناء الفتاة إيريني التي كانت في مثل عمره، تم إنقاذها من الموت لكنها أصبحت عرجاء نتيجة سيرها بساق صناعية. وإدراكًا لما حدث، ومن تلك اللحظة فصاعدًا، يتشكل الشعور بالذنب في ذهنه،من تلك اللحظة لن يكون هناك شيء على حاله السابق، لا يمكنه الاستمرارفي حياته متجاهلاً ما فعله، وتبدأ سحابة سوداء في ملاحقته في كل مكان، مما يؤثر على شخصيته وقراراته وطريقته في الحياة. عندما يعود إلى المنزل يتجاهله والده الناقد الأدبي الشهير الذي يعيش مع كتبه، لكنه يتفاجأ عندما يفكر في عناوين الكتب التي يقرأها بشغف مفرط. مع ذهول متزايد، يعتقد الطفل الصغير أن الكتب التي يقرأها والده تحمل إشارة إلى ما حدث له "الجريمة والعقاب" أو إلى شيء يشير إليه "الأبله"، وكمرآة اتهامية قام بتشبيك سيرته الذاتية من عناوين هذه الكتب، لتصبح إعادة بناء هذه للسيرة الذاتية في عقل الطفل جوهر القصة. يقدم خوان خوسيه مياس في هذه الرواية صورة لسنوات المراهقة، وقت الانتقال من الطفولة إلىالمراهقة، من الهشاشة إلى الجرأة، حيث يروي البطل كل شيء لم يجرؤ على الاعتراف به.يخبرنا عن الشعور بالذنب والمعاناة والعلاقات الأسرية والتنافس بينه وبين أبيه، وأيضا انفصال الأم والأب وبقائه مع أمه "التي لم تكن تحبني لكنها كانت تشفق عليّ"، مشاعر الحب تجاه الفتاة إيريني التي تسبب في فقدها لإسرتها وإصابتها بالعرج. يقول خوان خوسيه "عندما تتقدم في السن، تدرك أهمية الصدفة في حياتك، وأن اللحظات المهمة في حياتك قد جاءت عن طريق الصدفة. نحن نرفض قبولها لأنه سيكون من غير المحتمل الاعتقاد بأننا دمى في أيدي الصدفة، أو قبول أن الذات هي لعبة في يد اللاوعي. نحن نسعى جاهدين للسيطرة على الحياة. الحقيقة هي أن ما حدث لا يمكن تغييره، ولكن العلاقة مع ما حدث يمكن تغييرها، لأنه يمكن حسابها جزئيا. وهنا تأتي فوائد القراءة والكتابة". مقتطف من الرواية أنا أكتب لأن أبي كان يقرأ. انظروا إليّ في صالة البيت تلك الفترة، الأثاث كان غامقاً، غامقاً أيضاً كنت أنا من وراء الكنبة. أنا هذا الكائن الذي تقول له أمه: لا تصرخ، بابا يقرأ؛ لا تركض بالممر، بابا يقرأ؛ اخفض صوت التلفزيون، بابا يقرأ... بابا يقرأ. وبابا لم يكن يفعل شيئاً غير القراءة. أحياناً كنت أجلس إلى كرسيه الكبير وأفتح واحداً من هذه الكتب وأقلّد حركاته. وحين كنت أفتحه بالمقلوب كانت أمي تسخر مني. تقول: لا أعرف من المقلوب، أنت أم الكتاب. أكتب لأنه يروق لي تخيُل أن الكتاب الذي يمسك به بابا بين يديه كتابي. أكتب أيضاً بطريقة من يكون سجيناً فيما يكون أبي هو السجّان. حين تعلمت القراءة، أصبحت أمسك بالكتب بالشكل الصحيح، رغم ظني الآن أني كنت أمسك بها بالمقلوب، وكنت أقرأها فيما أتخيلني أبي، أبي يقرأ لي. كيف سيفكر في هذه العبارة أو في العبارة الأخرى، التي كتبها ابنه؟ من أوائل الكتب بمكتبة أبي التي استطعت تهجئة عنوان غلافها كان بعنوان "الأبله"، وبدا بالنسبة لي أحد أغرب ألغاز تلك الفترة. قرأت بعض السطور من هذه الرواية وأنا أبحث عن نفسي فيها، متخيلا أني من كتبها ومحاولا فهم ما الذي يراه أبي في الأبله (الذي هو أنا). حدث أني كنت أدرك أني أبله قليلا، من بين أشياء أخرى لأني كنت أتبول في السرير في سن لم يعد ذلك ذلك طبيعيا فيها. لا تلعب في الممر، بابا يقرأ. وذات يوم استضافوا بابا في التلفزيوم ورأيته أنا وماما، وكانت سعيدة جدا حد التأثر. كان برنامجا عن الكتب وكان أبي يتناقش فيه مع آخرين كانوا أيضا يقرؤون وبعض من كانوا يكتبون، لأني تخيلتهم بسهولة يتبولون في السرير. حين عاد أبي من اللقاء، قبلته أمي في فمه قبلة أحزنتني أكثر مما أسعدته، وقالت له إنه كان رائعا، أفضل من الجميع، أكدت له أمام ارتياب انطباعاته. رن التليفون عدة مرات وكانوا أصدقاء أو أقارب قالوا له الشيء نفسه: كان رائعا، أفضل من الجميع. وفي اليوم التالي أكد أبي أنه لن يظهر في التلفزيون مرة أخرى. ومن تفاهتي العقلية حدست أنها طريقة ليقول لهم ألا يعاودوا الاتصال به. 2 في تلك الأيام (وكنت أتممت الثانية عشرة ولا أزال متبولا في السرير) وقع حدث فظيع، وكان كذلك منذرا، سألتفت إليه الآن لأول مرة. صدقوا ذلك أو لا تصدقوه (ومن الأفضل ألا تصدقوه، رغم أنكم قد تتذكرون الحكاية، إذ انتشرت في كل مكان)، حدث أنه في يوم اثنين،عند العودة من المدرسة، قررت أن أنتحر، ومن ثم صعدت إلى جسر يمر من تحته طريق سريع يقع بالقرب من بيتي. ربما لن تميزوني جيدا لأن نهارات الشتاء قصيرة جدا وكان الظلام قد بدأ يحل. لكن دققوا النظر، ركزوا كيف أحدق مسحورا في حركة السيارات ذهابا وإيابا، زووم، زووم، زووم، أنا هذا الطفل المسكين الذي يقفز الآن من فوق الجسر متوقعا أن أموت في الحال، مثل الحشرات حين تصطدم بزجاج السيارة الأمامي. في الصيف حين كان أبي يصل إلى الشاطئ، يحدق بافتتان في زجاجسيارة الـ "سيتروين" ليتحقق من كمية الحشرات التي قضت نحبها عليه، والتي كانت تبدو حروفا مكسورة. هل كنت أبدو أنا أيضا حرفا مكسورا؟ ربما حرفا كبيرا؟ كانت تروق لي فكرة أن أبي يتأملني بافتتان غريب، وربما بألم، كما كان يتأمل الحشرات. لم أكن في حجم يعسوب، ولا حجم عصفور كذلك (لم يصطدم بالزجاج أي طائر)، كنت قصيرا ونحيفا، بحيث أني لو ألقيت نفسي من الجسر، فالمؤكد أني سأهلك في عُشر ثانية. وقبل أن ألقي بنفسي، لأتحقق بسذاجة من أن قوة الجاذبية موجودة، لا أعرف، أخرجت من جيبي "بلية" مخبأة كنت قد عثرت عليها ذلك اليوم في حوش المدرسة، وتركتها تسقط فوق سيل السيارات لتصطدم بزجاج سيارة مرسيدس وتسبّب اضطراب حركتها قبل أن تقفز الحاجز بين الطريقين وتقتحم الرصيف الآخر مقلوبة، وتصدم بمقدمتها شاحنة نقل. استفتوا قلوبكم لتعرفوا كيف توقف قلبي، لاحظوا ألمي في صدوركم، تألموا كأن اختناقي هو اختناقكم. تأكدوا كيف غامت رؤيتكم من نقص الأوكسجين. انسوا انتحاركم لأنكم موتى بالفعل واهربوا من من مسرح الجريمة من أثر الاختناق لأنكم لا تتنفسون واختنقوا لأنكم تتنفسون زائد عن اللازم.

مشاركة :