أواصل الحديث عن سعي الممانعين لولاية المرأة في القضاء في نفي صحة أدلة المُطلقين والمُقيِّدين ولايتها فيه، بل نجد بعضهم قال إنّه لم يصح عن الطبري إطلاق ولايتها في القضاء، مستندين على مقولة القرطبي (ت671هـ) بعد نقله رأي ابن جرير: «ولم يصح ذلك عنه»، متجاهلين ما قاله الماوردي (364- 450هـ) في أدب القاضي، وهو الأقرب لعصر الطبري (224-310هـ) -والأولى أن يعلم بأنّه لم يصح ذلك عنه- قالها صريحة، عند حديثه عن شرط الذكورة في القضاء «فأمّا المرأة فلا يجوز تقليدها، وجوّزه ابن الطبري كالرجل.. فأمّا ابن جرير فإنّه علل جواز ولايتها بجواز فتواها» (ص625)، وقال في الأحكام السلطانية: «وشذ ابن جرير الطبري فجوز قضاءها في جميع الأحكام»، وأكّد ذلك ابن رشد الحفيد المالكي، فقال: «وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة»، فقال الجمهور: هي في صحة الحكم. ووصف الماوردي لرأي الطبري بالشذوذ، غير مطابق للواقع، فقد سبقه في ذلك كل من: الحسن البصري (ت110هـ) وابن القاسم المالكي (ت191هـ) ومحمد بن حسن الشيباني صاحب أبي حنيفة (ت189هـ)، فهؤلاء سابقون للطبري (ت310)، فكيف يقول الماوردي عن الطبري قد شذّ بإطلاقه ولاية المرأة في القضاء؟! وفي هذا دلالة على انحياز الممانعين إلى رأيهم بنفيهم حقائق ووقائع لا يمكن تجاهلها، ونرى ذلك عند نفيهم عدم اشتراط الحنفية الذكورة في القضاء فيما عدا الحدود والقصاص، مع أنّ ذلك مثبت في كتبهم، من ذلك قول علاء الدين الكاساني الحنفي في البدائع: «وأما الذكورة، فليستْ مِن شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأنّ المرأة من أهل الشهادات في الجملة، إلاَّ أنّها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأنّ لا شهادة لها في ذلك، وأهليَّة القضاء تدور مع أهليَّة الشَّهادة»، وقال السرخسي في مبسوطه: «ولا ينبغي أن يستعمل في القضاء إلّا الموثوق به في عفافه وصلاحه وعقله وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه التي يأخذ منها الكلام». ونقل عن الأحناف ابن حجر العسقلاني الشافعي «فتح الباري»: «واتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي إلاَّ عند أبي حنيفة، واستثنوا الحدود». وقال ابن رشد الحفيد المالكي «بداية المجتهد»: «وقال أبوحنيفة: يجوز أن تكونَ المرأة قاضيًا في الأموال». وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني: «وقال أبوحنيفة يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود، لأنّه يجوز أن تكون شاهدة فيه». (11/381). فهل كل هؤلاء وهموا عدم اشتراط الحنفية الذكورة في القضاء إلّا في الجنائيات؟! الخلاصة: أنّ الممانعين ولاية المرأة في القضاء لم يكتفوا بمنع ولايتها على الإطلاق، بل نجدهم ابتعدوا عن المنهج العلمي في سعيهم إلى نفي أو تضعيف أدلة وأقوال المُجيزين ولايتها المطلقة في القضاء، والمقيدين لها، ليدعموا رأيهم في انتقاص أهليتها لذلك. suhaila_hammad@hotmail.com
مشاركة :