تشكلت أعمال المعرض الافتتاحي لمهرجان الفنون الإسلامية الذي انطلق صباح أمس في متحف الشارقة للفنون في قلب الشارقة، في سلسلة محاور تلتقي فيها تجارب الفنانين المشاركين، إذ يبدو المعرض منسجماً مع الموضوع الذي انطلق تحته والمتمثل في (الضوء)، وفي الوقت نفسه يشكل رؤية جمالية لصيغة الفنون الإسلامية البصرية المرتبطة تاريخياً بفنون الخط العربي، والزخرفة، والعمارة، والسجاد وغيرها من الفنون. فعلى الرغم من أن المعرض يجمع 36 تجربة فنية من مختلف دول العالم، تختلف في مسارات تجاربها، ورؤاها الفنية، والخامات، والتقنية التي توظفها، إلا أنها تكاد تكون مجتمعة في ورشة عمل واحدة وضمن رؤية واحدة ينطلقون منها، فالأعمال تطرح صورتها البصرية في إطار الاشتغال على مفهوم الزخرفة الإسلامية بأشكالها المتعددة، النباتية و الهندسية، وتستند في الوقت نفسه الى التجريد الجمالي للمفاهيم الروحانية التي تنتمي إليها الثقافة الإسلامية بمختلف أشكالها وامتداداتها التاريخية. يظهر هذان المحوران كمركزين أساسيين يرسمان معالم المعرض ويحددان الهوية البصرية التي يمضي فيها الفنانون في تقديم تجاربهم، فلا يمكن لزائر المعرض إلا الالتفات إلى حجم الاشتغال الواضح على صورة وتكوين الزخارف الإسلامية، والاستناد إلى التجريد الذي انتجته المنظومة الفكرية، والعقل الإسلامي المتخلص من التجسيد، والباحث عن كل ما هو متسام وروحاني. لذلك لم يكن غريباً أن تظهر الزخرفة بأشكالٍ وتنويعات متعددة، فمن الضوء الذي يمثل محور الدورة الثامنة عشرة للمهرجان، إلى الزخارف الورقية، والتركيبات الخشبية، إضافة إلى الخطية، والقماشية، والسجاد، وحتى المعدن، إذ بدت الزخرفة هي الهوية المكثفة للثقافة البصرية الإسلامية، وبدت الأكثر تعبيراً عن المشروع البصري الجمالي الذي خاضه المسلمون عبر تاريخ طويل من التمازج الثقافي، والتأثر والتأثير والتحول والحذف والإضافة. يمكن قراءة هذا الاشتغال على مفهوم الهوية البصرية الإسلامية في المعرض وتلخيصه في الزخرفة من خلال التوقف عند نماذج متنوعة من الأعمال المشاركة، إذ لكل فنان تجربته وتقنياته المختلفة التي يطرح فيها أعماله، إلا أن أغلبهم يشترك في صياغة صورة جديدة لشكل الزخرفة الجمالي. نجد ذلك في تجربة الفنان الأمريكي إريك ستانلي حيث قدم تجربة متفردة من حيث تقنيات بناء العمل، والمشروع الذي يعمل عليه، إذ اشتغل على الزخارف الهندسية، والنباتية بتقنية لافتة يعمل فيها على طبقات من الورق المصفوف والمزخرف في مستويات مختلفة بحيث يشكل جمعه وحدة بصرية متكاملة تظهر فيها الخطوط المتداخلة، والزوايا، والرسوم الهندسية. مقابل هذا التفرد على صعيد التقنية يربط الفنان بين أعماله ومشروعه الفني والعلاقة الروحانية المتعالية القائمة في علاقة الأرضي مع السماوي، فيعنون أعماله بأسماء أجرام سماوية، منها: إيما، وزينون، وإوريون، وغيرها من الأجرام، محاولاً بذلك فتح نافذة على العلاقة التي شكلها الإنسان طوال تجربته البشرية مع السماء من حالة تأمل، وتقديس، وجمال، وروحانية، وغيرها. إلى جانب أعمال ستانلي تظهر تجربة الفنانة الهولندية سوزان درومن كواحدة من التجارب اللافتة في الامتثال لتكوين الزخارف الإسلامية، فالفنانة تعمل على الشكل الجمالي للزخارف، وتستعين بطاقة اللون، ومفهوم تضعيف الفراغ في أعمالها، إذ تشكل على سطح الأرض أشكالاً هندسية دائرية تتداخل وتتقارب لتشكل عملاً متكاملاً ملوناً بقطع زجاجية لامعة بالأخضر، والأحمر، والأزرق، وتضع في منتصف العمل مرآة عاكسة على شكل قبة لتضاعف التكوين المتشكل وتجعل المتابع للعمل بصورة انعكاسه جزءاً من العمل الفني. تنكشف رؤية الفنانة في عملها ليس عبر الزخارف التي تمنح العمل الهوية البصرية الإسلامية وحسب، وإنما عبر توظيف المرآة، التي تشكل مركز العمل، والتي تجمع كل المحيطين فيها بشكل مختزل، ومكثف، وتطل في اتجاهها إلى السماء، وكأن الفنانة في هذا الاشتغال توظف مفهوم القباب في الثقافة الإسلامية. ليس الفنان ستانلي، والفنانة درومن وحدهما من تظهر في أعمالهما التركيز على صورة الزخرفة الإسلامية، فرغم الرؤى التي تتنوع والخامات التي تتفاوت وتتبدل وفق تجربة كل فنان إلا أن هذا الملمح يظهر في مجمل الأعمال الفنية المشاركة، فنجد الفنان الإيطاليفابريزو كورنيلي يعمق مفهوم الضوء في عمله من خلال توظيفه للضوء بوصفه مادة قابلة للتشكل في سياق بصري يمكنه أن ينتج شكلاً جمالياً مرسوماً. وينطلق في ذلك من الرؤية المركزية التي يقوم عليها المهرجان، وهي الضوء والفنون الإسلامية، إلا أنه في الوقت ذاته يطرح رؤيته في مساحة مغايرة يمكن قراءتها على أكثر من مستوى، الأول هي العلاقة بين الضوء والمفاهيم الروحانية، والثاني الشكل وقدرته على تكثيف المفاهيم المقدسية والروحانية، فيصبح الشكل في عمله إشارة واضحة نحو مختلف الرسوم التي عرفتها المساجد الإسلامية عبر تاريخ طويل للعمارة الإسلامية بكل تحولاتها. وهذا تماماً ما يقوم به الفنان الأذري رشاد الأكبروف إذ ينطلق من العلاقة بين الظل والنور والكتلة والفراغ في تجسيد عمله، فيلجأ إلى تقنية الأشكال التي تبدو عشوائية أمام مصدر ضوئي لتعكس على الجدران شكلاً منتظماً وعبارات ورسوماً، فتظهر أعماله تكثيفاً للعلاقة بين المادي والروحي، والسماوي والأرضي، والمحسوس والملموس، وغيرها من العلاقات المتقابلة. في ظل ذلك لا يمكن النظر إلى الشكل الزخرفي الطاغي على المعرض بوصفه صورة جمالية قائمة وحسب، أو بوصفه مفهوماً يشير إلى الهوية الإسلامية وحسب، فهو مقابل ذلك كله علامة بصرية جمالية تكشف التجريد الذي وصلت إليه الثقافة الإسلامية في علاقتها مع الجماليات المرئية، فما الشكل الهندسي أو النباتي إلا هدم لمفهوم البعد الثالث في الشكل البصري الفني، وهو انزياح عن التجسيد إلى التجريد.
مشاركة :