عبدالعزيز بوباكير مثقف متكامل لم تروضه العصا ولم تغره الجزرة

  • 7/7/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

رحل الكاتب والمترجم والإعلامي عبدالعزيز بوباكير عن عالم الأحياء دون أن يرى الجزء الثاني من "مذكرات الشاذلي بن جديد" النور، وربما لن يراه أبدا، لأن عائلة الرئيس الراحل لا زالت تعترض على نشره، ولأن القلم الذي خط ذلك الكتاب قد غادر إلى الأبد، وأغلقت معه خزنة من أسرار المرحلة، التي انتهت به إلى باحث عن مسافة وسط بين هؤلاء وأولئك، ولم يبق لعشاقه إلا أنفاسه الأخيرة التي نفثها في آخر أيامه عبر سلسلة "الكأس تدور" على حسابه الخاص في فيسبوك. من بداهته وخفة روحه وأسلوبه المميز، صنع الرجل لنفسه شخصية أدبية مميزة، وصار بيته بوسط العاصمة محجا لمعجبيه والمتأثرين بأعماله وبإبداعاته، حيث كان يستقبلهم هناك رفقة قطته التي تقاسمه حياته بكل زخمها التأملي والفلسفي، وظل متعففا عن الصالونات والأضواء الرسمية، وفيا لأفكاره اليسارية، عكس النخب المتلونة مع كل الوضعيات والأطياف، وهو ربما ما كلّفه التجاهل وهو قامة من قامات البلاد في التأليف والإبداع والترجمة. ◙ تعبير "الكأس تدور" الذي ورد على لسان الرئيس عبدالمجيد تبون جعل منه بوباكير عنوانا بارزا لآخر الأنفاس الباحثة عن الحرية في زمن سدت فيه جميع الأبواب أمام الرأي الآخر وُوري بوباكير، أصيل مدينة جيجل، الثرى في مقبرة بإحدى الضواحي الشعبية بشرق العاصمة، وودعه الأقارب والأصدقاء والبسطاء مثله ومثل قبره وجنازته، بينما غابت المؤسسات والنخب الرسمية عن تأبين ورثاء الفقد الذي تركه الراحل في المشهد الفكري والإبداعي. ولأنه لا العصا روضته ولا الجزرة أغرته، ظل الفقيد وفيا لمبادئه وقناعاته الفكرية والأيديولوجية، ولم يتوان عن توجبه سهام النقد للممارسات السلبية سواء كانت في السلطة أو المعارضة، وجعل من تعبير "الكأس تدور"، الذي ورد على لسان الرئيس عبدالمجيد تبون في أحد تصريحاته، عنوانا بارزا لآخر الأنفاس الباحثة عن الحرية في زمن سدت فيه جميع الأبواب أمام الرأي الآخر. في المأثور الجزائري الشعبي أو الفصيح، تتردد عبارة "الكأس تدور" في مجالس خاصة، إما أن تكون للخمر أو القمار أو تبادل الأدوار والمصالح، لكن كيف سقطت من لسان تبون؟ هل كانت زلة لسان، أم دليلا على التوازنات القوية داخل السلطة، ومثلها مثل أيّ مفردة أو عبارة قبيحة أخرى، يتحاشاها العامة، لكنهم يتهامسون بها، ولذلك ربما أراد الراحل أن يجعلها عنوانا لكشف ونقد سلوكات وممارسات بات من الصعب أمام هيمنة الرأي الواحد إيجاد منبر لملاحقتها. إذا أراد أيّ مهتم إزالة اللبس والغموض عن الإقامة الصحية لكارل ماركس بالجزائر، فلا أحد يقدم له الحقيقة إلا بوباكير، فهو الشاب والطالب والباحث المتخرج من جامعة سوفييتية، وأحد وجوه النخبة الجزائرية التي عاصرت الحقبة الذهبية للتيار اليساري في العالم. صمت الماركسية عن الاستعمار بداهته وخفة روحه وأسلوبه المميز، صفات صنع منها بوباكير لنفسه شخصية أدبية مميزة وصار بيته بوسط العاصمة محجا لمعجبيه والمتأثرين بأعماله بداهته وخفة روحه وأسلوبه المميز، صفات صنع منها بوباكير لنفسه شخصية أدبية وصار بيته بوسط العاصمة محجا لمعجبيه والمتأثرين بأعماله يقول مصطفى كيحل في مقال له إن من بين الكتب التي تمثل وثيقة تاريخية ومعرفية مهمة كتاب "موريسكي في الجزائر.. رحلة كارل ماركس إلى الجزائر"، الصادر عن دار ميم للنشر سنة 2019 حيث يتوقف فه بوباكير عند المحطة الأخيرة من مسيرة الفيلسوف الألماني ماركس، وتحديدا في الجزائر، من خلال الرحلة العلاجية امتثالا لنصيحة الأطباء، وتشجيعا من رفيق دربه فريدريك إنجلز، كما يمثل الكتاب وثيقة تاريخية لأنها تقدم نظرة ماركس للجزائر في تلك الفترة، لاسيما وأنها هي البلد العربي الوحيد الذي زاره طيلة حياته. ويرى كيحل أن بوباكير فنّد في البداية بعض الروايات التي تدور حول تلك الزيارة الشهيرة لماركس إلى الجزائر، وذلك بالاعتماد على رسائله الـ16، منها 9 أرسلها إلى صديقه إنجلز في لندن، و5 إلى ابتنه الكبرى جيني لونغي في أرجونتاي بفرنسا، ورسالتين إلى صهره بول لافاراج، وابنته لورا في باريس. ◙ بوباكير يرحل مخلفا وراءه رصيدا هاما من الأعمال آخرها كتابه "بوتفليقة رجل القدر" إلى جانب مقالاته في الصحافة والتي اعتاد عليها الجزائريون على مدى عقود يشير بوباكير إلى فرضية ضياع عدد آخر من الرسائل والتي قد تتضمن معلومات أخرى حول إقامته في الجزائر من 20 فبراير 1882 إلى 2 مايو من نفس العام، فهذه الرسائل لا تشير إلى زيارة ماركس إلى مدينة بسكرة جنوبي العاصمة، حيث جاء في رسالته إلى إنجلز المؤرخة بتاريخ أول مارس 1882، أن سبب عدم انتقاله إلى بسكرة هو طول الرحلة التي تستغرق من 7 إلى 8 أيام وأنها رحلة محفوفة بالمخاطر، وذلك ليس في مقدرة رجل عاجز مثله. كما يعبّر عن اندهاشه مما ذكره حفناوي بعلي في كتابه "صورة الجزائر في عيون الرحالة وكتابات الغربيين" من حديث عن زيارة ماركس لمدينة عنابة بأقصى شرق البلاد، وإقامته بفندق "الشرق" الكائن بساحة الثورة، حيث لم تتضمن رسائل ماركس إشارة إلى ذلك، فضلا على أنه صحّح بعض الأخطاء التي تضمنها كتاب جورج طرابيشي "الماركسية والجزائر". كتاب "موريسكي في الجزائر" اهتم بتكوين فكرة دقيقة عن شخصية ماركس الإنسان ومزاجه ومشاعره وهو في خريف عمره وفي تجليه وشروده، وفي لحظات قوته وأحايين ضعفه، وتناول بالتفصيل رحلته تلك، حيث يذكر في إحدى رسائله، بأنه "أقام في فندق الشرق الكبير المطل على الميناء لليلتين فقط، وأكمل الإقامة في فندق فيكتوريا بأعالي العاصمة، وقد أطنب في وصف الأحوال الجوية، حيث صادف قدومه للجزائر شتاء باردا وطويلا". حاول ملامسة الاستفهامات المنطقية حول موقف شخصية بارزة مثل ماركس، وانطباعاته حول الجزائر والجزائريين الذين كانوا حينها قد دخلوا عقدهم الخامس تحت راية الاستعمار الفرنسي، وموقفه من الظاهرة الاستعمارية لعرّاب اليسار العالمي. وقد استنبط بوباكير فرضية تأثره بالواقع الذي صادفه خلال زيارته إلى الجزائر، ومدى وفائه لفلسفته الرافضة لأشكال الاستغلال والاستلاب، وإمكانية دعوته مثلا إلى ضرورة تغيير الواقع الاستعماري الظالم؟ ففي الفلسفة الماركسية كما هو معلوم لا يكفي فهم العالم بل يجب تغييره. ولفت متسائلا هل أشار ماركس في رسائله إلى السكان الأصليين؟ وهل أبدى تعاطفا مع واقعهم واستغلالهم من طرف الفرنسيين؟ وهل ندد بالجرائم والإبادة الجماعية التي كان يتعرض لها الجزائريون؟ ويخلص الراحل في تحليل شخصية ماركس بأنه "لا توجد في رسائل ماركس إدانة صريحة للاستعمار"، ويعود إلى طرح السؤال حول إمكانية تغيير ماركس موقفه من الاستعمار بعد إقامته في الجزائر، على الرغم من أن الموت لم يسعفه إلى ذلك، ولكن جملته التي قالها عن الاحتلال الإنجليزي لمصر توحي بالكثير "يا له من عمل رائع، من الصعب أن نجد مثالا أكبر للنفاق المسيحي من غزو مصر، إنه احتلال وفق الأصول في زمن السلم". صندوق الحقائق الغائبة بوباكير صندوق الحقائق الغائبة يخبرنا أن شارلي شابلن دشّن فندق الأوراسي بالعاصمة، وأن الرئيس البرتغالي غوميز نُفي إلى بجاية وأن غيفارا حين زار الجزائر نجا من حادث مميت الراحل يمثل صندوق الحقائق الغائبة إذ يخبرنا أن الرئيس البرتغالي غوميز نُفي إلى بجاية وأن غيفارا حين زار الجزائر نجا من حادث مميت في قراءة شخصية فقيد الإعلام والترجمة والتأليف بالجزائر، يقول مخلوف عامر إن بوباكير، هذا الإنسان المثقف والمثقف الإنسان، درس أيام الاتحاد السوفييتي، فأتقن اللغة الروسية واطّلع على روائع الأدب الروسي والعالمي ونبش خفايا المكتبات الشرقية، لكنَّه يقرأ بوعي حاد، فلا ينقل إليك إلا ما قام بغربلته. ويضيف "حين يقع عليه الاختيار ليحرّر مذكرات الرئيس الشاذلي بن جديد، أو يترجم مذكرات أحمد طالب الإبراهيمي أو غيرهما من المسؤولين المعروفين، فليس لأنه هو الذي بحث عن ذلك أو تودّد إلى أهل السلطة، بل لأن كفاءته المميزة هي التي تجرّهم إليه اعترافا منهم بقدراته الفريدة، فهو يتقن الفرنسية وينقلها إلى العربية بلغة راقية، وحين يعوّل على الحديث في السياسية وإن هو استحضر وجوه السياسيين الذين عرفهم، إلا أنه لا يشعر بحرج تجاههم ليتنازل بل لا يتردد في التعبير عن مواقفه بوضوح وجرأة نادرة، لذلك ترى الجنرال يهدد بمقاضاته، وهو الذي قال "ليس الرئيس هو المريض.. الدولة هي المريضة"، ويقول اليوم "الحراك سيكون درسا لجميع العرب". ◙ كتاب "موريسكي في الجزائر" اهتم فيه بوباكير بتكوين فكرة دقيقة عن شخصية ماركس الإنسان ومزاجه ومشاعره وهو في خريف عمره وفي تجليه وشروده إنه صندوق الحقائق الغائبة، فلأنَه يخبرك بأن شارلي شابلن كان من بين من دشنوا فندق الأوراسي بالعاصمة، وأن الرئيس البرتغالي مانييل تكسيرا غوميز نُفي إلى بجاية، وأن تشي غيفارا حين زار الجزائر نجا من حادث مات فيه سائقه فبكاه كما يبكي أخاه، ويحدثك عن لقاء عملاقين: بن شنب وكراتشفسكي، وغيرهم كثير، وأن أمير القصة العربية يوسف إدريس، جمع في احتضانه للقضية الجزائرية بين القول والفعل، بين القلم والرشاس، ففي عام 1961 التحق بجبال الجزائر وحارب العدو الفرنسي، وأصيب بجرح، وبعد الاستقلال قلَّده الجزائريون وساما عرفانا له بكفاحه إلى جانبهم. رحل بوباكير تاركا وراءه رصيدا من الأعمال تفوق رصيد مؤسسات بذاتها، نقل عن اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية كتاب "ليل الاستعمار" لفرحات عباس، ومذكرات المؤرخ الجزائري محمد حربي بعنوان "حياة صمود وتحد"، كما ترجم إلى اللغة العربية "مذكرات أحمد طالب الإبراهيمي"، كما نقل عن اللغة الروسية العديد من الكتب منها "الأنتلجنسيا في بلدان المغرب أفكار ونزعات لفلاديمير ماكسيمنكو"، وكتاب "جيش الثورة الجزائرية" ليوري كوندراتييف، وكتاب "النخبة الجزائرية في مطلع القرن العشرين" لنيكولاي دياكوف، أما في حقل الدراسات والأبحاث فقد اهتم بالأدب الجزائري، وبالجزائر في الاستشراق الروسي، وآخر كتاب صدر له هو "بوتفليقة رجل القدر"، إلى جانب مقالاته في الصحافة والتي اعتاد عليها الجزائريون على مدى عقود.

مشاركة :