بعد مرور آلاف السنين من تجارب الكتابة على الطين والجدران والرق والورق، جاءت اللغة الرقمية لتفتح المجال على اتساع العالم أمام كل راغب في أن يرى ما يخطر في باله مكتوباً أمامه مزيناً باسمه ومعروضاً للاطلاع والمناقشة إعجاباً أو إهمالاً. وفي مسألة الإبداع الأدبي تحديداً، قد تبدو سلبيات الكتابة الإلكترونية أكثر من الورقية، لأن النشر الورقي يخضع عادة للتقييم من حيث العمق والمحتوى ومهارة التعبير وسلامة اللغة. أما من يكتب في المواقع الإلكترونية فربما لا تتوافر في عمله تلك الشروط، حيث قد يكتب ما يشاء، دون مشرف أو رقيب نشر، وبالتالي قد لا يعير تقييم الآخرين من متصفحي كلماته أي اهتمام أو اعتبار. جودة المحتوى وفي هذا السياق، يقول الأديب محمد شعيب الحمادي: إن للكتاب الورقي وهجاً وإثارة ونوعاً من الترابط بين الكاتب والكتاب، لأن العملية الإبداعية تدخل في مراحل عدة، منها الكتابة الأولية بخط اليد، ثم تتحول إلى مسودة، للمراجعة والتصحيح والتنقيح، ثم إلى مخطوطة يشارك بها الكاتب في كثير من الأحيان.. مع النقاد أو الأصدقاء لإبداء الرأي وأخذ المشورة، وبعد ذلك تذهب إلى دور النشر، التي بدورها تعمل على الإخراج والتصميم قبل الطباعة. وأضاف الحمادي: على رغم كل تلك الرحلة، وما فيها من مشقة وجهد وزمن، إلا أنها ماتعة، وتبشر في النهاية بمولود إبداعي جديد للكاتب الذي اجتهد وأعاد صياغة الكتابة عدة مرات، ولذا يكون الكتاب محافظاً على جودة المعنى والمبنى في ذات الوقت. وقد يعتقد بعضهم أن الكتابة الرقمية تقصر المسافة، وتنتشر بشكل أسرع، وتكون في متناول الجميع.. وربما يكون لهم الحق، إلى حدما، فيما يذهبون إليه، إلا أنني أرى أنها تفتقد المتعة الحقيقية من خلال الرحلة التي ذكرتها. ومن ناحية أخرى، فإن الكتابة الرقمية، وإن كانت أسهل وأسرع انتشاراً، إلا أنها قد تفتقر للتنقيح، وقوة البناء الأدبي واللغوي. ولا ننكر فضل الشبكة العنكبوتية في نشر المؤلفات، ولكنني أفضل الكتاب الورقي، ولا بأس باستخدام التكنولوجيا في تحويل الكتاب الورقي إلى كتاب مسموع أو إلكتروني، ولكن يبقى الكتاب الورقي كنزاً لا غنى عنه. ثقافة الكاتب وحول موضوع الإبداع الأدبي بين الوسيلتين الورقية والرقمية، تقول الأكاديمية د. فاطمة المعمري: الكتابة هي الكتابة، سواء إن كتبت على الورق أو كتبت عبر منصات إلكترونية، ولكن العلامة الفارقة تتجلى في جودة الإبداع الأدبي وهي ثمرة ناضرة من مهارات وثقافة الكاتب نفسه. أما الكتابة في الفضاء الإلكتروني فقد تؤثر سهولتها على مستوى التعبير، لأنها متاحة للجميع مما قد يمكّن الراغبين في استخدام هذه الوسيلة لنشر تجاربهم وكتاباتهم غير الناضجة، ولكن هذا لا يعني أيضاً بالضرورة عدم وجود كتب أدبية ضعيفة الثقافة في ظل تزايد النشر التجاري. وتشير د. المعمري إلى أن القضية المحورية في الكتابة الإبداعية، من وجهة نظرها، لا تقتصر على موقع طرحها، وإنما ما يحتاجه الكاتب من توجيه ونقد وتدريب حتى يتمكن من إتقان محتوى إبداعي قيم ومؤثر. الكتابة للمستقبل الروائية آن الصافي لها تجربتها في هذا المجال، تقول: إن الإبداع المكتوب ثمرة الحضارات الإنسانية. حين بدأت النقوش برموز ورسومات على الحجر والعظم والشجر ومن ثم البرديات كانت من قريحة الإنسان مدونة بما يتوافق مع معطيات عصره. ولاحقاً مع التمكن من الكتابة بالحبر على الورق نجد أن أدوات العصر حملتنا مفاهيم جديدة لتقديم المنجز الإبداعي عبر الكتب والصحف والمجلات. أما في العصر الراهن وما فيه من أدوات إلكترونية، في عصر الثورة الرقمية التي تأتي كمرحلة متقدمة من عهد الصورة باختلاف وسائلها، فقد أسهم ذلك في نشر ما يتعلق بعوالم الإبداع بسهولة ويسر. وهذا لا ينال من قيمة الكتابة الورقية مطلقاً، ولعل كل ما في الأمر أن الفضاءات الرقمية حقل جديد للكتابة، والمتلقي قد يكون أي شخص، من أي مكان، وفي أي وقت حاضراً أو مستقبلاً. وتؤكد الأديبة الصافي أنها مهتمة بمشروع الكتابة للمستقبل بمعطيات العصر وأدواته والمستجد من القضايا، ولديها ثقة بتوظيف هذه الأدوات، والكاتب لا بد أن يجد بتطبيقاتها ما هو مشوق وهادف أيضاً. وتشير إلى تجربتها ومشروعها في الكتابة للمستقبل قائلة: هناك فئات عمرية، وهي الشريحة الأوسع في إقليمنا، تعي معطيات العصر وتأثيرها وتتابعها بشغف، وخاصة أن هذه التجارب تفتح الأبواب للمبدعين عموماً، وعلى وجه الخصوص أجيال اليوم والغد.
مشاركة :