المنصف الوهايبي شاعر يجلس ليكتب الشعر

  • 8/20/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ما بين عشرينات القرن العشرين وثلاثيناته استطاع أبوالقاسم الشابي أن يضع تونس على خارطة المركز الشعري العربي وينتشلها من الهامش. كانت المعجزة في حاجة إلى موهبة كبيرة مثل موهبة الشابي لتتحقق. تكرر الأمر في سبعينات القرن العشرين مع ظهور شاعرين صديقين هما محمد الغزي والمنصف الوهايبي اللذين جذبا إلى مدينتهما القيروان كبار شعراء الحداثة العربية. كانا همزتي وصل بين المدينة العريقة والمركز الشعري فكنت تراهما في مدن الحداثة الشعرية ممثلين لبلدهما الذي غادر بسببهما موقعه في الهامش الشعري إلى ما لا نهاية. وهنا ينبغي ألاّ ننسى شاعرا تونسيا ثالثا هو المنصف المزغني الذي أدهشته براعته في جذب الجمهور فاستسلم لخطاب شعبوي مباشر وافترق عن الحداثة الفنية. الشعر مصباحه في ليل قرينه الوهايبي شاعر تجريبي. تلك صفة يمكن أن تعرفه جيدا. فهو لا يستقر على شكل بعينه ولا يغريه أسلوب فيكرره ولا يضع رصيده في موضوع، كان قد حصد شهرة بسببه. هناك ما يدفعه إلى التخلي عن الشكل والأسلوب والموضوع وصياغاته الجمالية المتاحة ليبدو كما لو أنه يبدأ من جديد. الشاعر لأول مرة وهو يزج بقصائده الطويلة في عوالم لم تتعرف عليها من قبل. لن تكون مفرداته فيها إلا محاولة للإنقاذ ولا يسعها أن تجمل الفشل إذا ما حصل. لذلك اختار أن يكون مسافرا بين المنسيين، منسيا بين المنبوذين، مغامرا يرتاد جهات في التاريخ لم يخترقها شعريا أحد. كان الفيلم الذي كتبه “يا بلدا يشبهني” هو قصيدة كُتبت من أجل واقعة تنطوي على الكثير من الشعر. فبول كلي الرسام الحداثوي الذي زار عام 1914 تونس والحمامات والقيروان لم يترك عن زيارته إلا جملا جميلة مبهمة ورسوما هي جزء من تجربته الفنية التي تنطوي على الكثير من الغموض. عن طريق الشعر نجح الوهايبي في اختراق كل ذلك الغموض. ساعده الشعر في أن يكون الآخر الذي يقتفي خطى الملهمين في لذة العيش وسط متاهاتهم. كان أكثر من أن يكون شاعرا فقط. كان الشعر مصباحه في ليل ذلك الآخر. ولد الوهايبي عام 1949 في القيروان بقرية حاجب العيون. حصل على شهادة الدكتوراه مرتين. المرة الأولى عن أطروحته ”الجسد المرئي والجسد المتخيل في شعر أدونيس“ والثانية عن أطروحته ”صناعة الشعر عند أبي تمام ومكوناتها في قراءة القدامى وفي النص الشعري“. عمل أستاذا محاضرا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة سوسة كما أنه عضو في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ”بيت الحكمة“. أصدر كتابه الشعري الأول “ألواح” عام 1982. بعده أصدر أكثر من عشرة كتب شعرية، آخرها “بالكأس ما قبل الأخيرة” الذي نال عنه جائزة الشيخ زايد للآداب. كما كتب ثلاث روايات هي “هل كان بورقيبة يخشى حقا معيوفة بنت الضاري“، و”عشيقة آدم“ و“ليلة الإفك“، وفي عام 1996 كتب سيناريو فيلم “يا بلدا يشبهني” بعده شارك في كتابة سيناريو فيلم “ابن رشد”. وقام بترجمة عدد من الكتب الشعرية. تبقى القصيدة هي الأصل ● عين الوهايبي على الشعر القديم. فهو يعرفه ويسعى إلى تفكيك ظاهرته، وسيكون عليه أن يصنع معادلات فاخرة ● عين الوهايبي على الشعر القديم. فهو يعرفه ويسعى إلى تفكيك ظاهرته، وسيكون عليه أن يصنع معادلات فاخرة تنوع الأجناس الأدبية التي مارسها أهّله لأن يكون أكثر أدباء تونس حصولا على الجوائز. نالت روايته “عشيقة آدم” جائزة الكومار ونال أربع جوائز عن كتب شعرية كما حصل على جائزة شاعر عكاظ عام 2014، وهو شاعر غزير الإنتاج يكتب في الصحافة الثقافية بشكل دوري منتظم. في فيلم “يا بلدا يشبهني” كشف الوهايبي عن مواهب متداخلة. هي المواهب التي يمكن أن يختصرها الشعر إذا كان الشاعر بخيلا ويمكن أن يتسع بها إذا رغب الشاعر في أن يمتد بحواسه بعيدا عن اللغة. أقصد لغة الكلمات. وهكذا ذهب الوهايبي إلى لغة الصورة بشكليها، الرسم والسينما. فكان بستلهم من رسوم بول كلي شعرا يحوّله إلى لغة السينما. وهو ما استفاد منه في شعره لأنه يميل إلى كتابة القصيدة الملحمية الطويلة. عن طريق الشعر ذهب إلى الرسم الذي أعاده إلى الشعر لأن كلي كان موسيقيا أيضا غير أن الشعر هذه المرة أطلق خيال السينما. علاقة مركبة تبقى فيها القصيدة هي الأصل. الغزي والوهايبي جذبا إلى مدينتهما القيروان كبار شعراء الحداثة العربية. وكانا همزتي وصل بين المدينة العريقة والمركز الشعري فكنت تراهما في مدن الحداثة الشعرية ممثلين لبلدهما يعتقد الوهايبي أنه يكتب الشعر وليس يتلقاه من جهة مجهولة وهو ضد ما يُقال عن السليقة الشعرية. يقول “لا توجد سليقة في الشعر. عندما تكتب أنت تكتب وتفعّل ذهنك. إذاً هناك أولا الأذن الثالثة وهناك عين أخرى ثالثة. عندما نكتب في الحقيقة نصنع. وليس من الضروري أن نأخذ القلم ونكتب. لي رأي مثلا في الشعر الجاهلي بأنه كتابي، لا يمكن أن يكون هذا الشعر شعرا شفويا. يمكن أن نقرأ هذه المعلقات وهذه النصوص المحكمة أقول دائما هي منجمة أيضا أي أنها كُتبت على مراحل. لا يمكن أن يكون امرؤ القيس أو طرفة أو كل هؤلاء كتبوا هذه المعلقات دفعة واحدة”. عينه على الشعر القديم دائما. فهو يعرفه ويسعى إلى تفكيك ظاهرته دائما. سيكون عليه دائما أن يصنع معادلات فاخرة. تلك معادلات تتعلق بالزمن غير أن صلته بالمكان تظل هي الأساس. والأساس هنا القيروان. المدينة التي ترضيه شاعرا ومؤرخا يكتب عن الذين مروا بمدينته: “شعراء هذه القيروان أحبهم أصواتهم سرب من الغزلان في صحرائها كانت تنير لنا الطريق الزئبقي… القادمون من الشمال القادمون من الجنوب بهم سذاجة نبتة مثلي، إذن لا قيروانك أنت راينر ماريا ريلكه لا قيروانك أنت يا روزا أليس.. البحر أمك لا قيروانك يا سعدي.. يا ابن يوسف وردة الثلج التي أهديتها لا قيروان محمد بنيس ذي فاس لنا أخرى، تطل على منازلنا لا قيروانك أنت بول كلي تقودك ريشة منها إلينا أو إليها هي قيروانك أنت إذ تمشي بها يا ابن الوهيبي”. كانت القيروان حاضرة دائما في شعره لا لأنها قيروانه بل لأنها بوصلته وهو يضع التاريخ على طاولته الشعرية. حياة في خدمة الفنون ● الوهايبي يعتقد أنه يكتب الشعر وليس يتلقاه من جهة مجهولة، وهو ضد ما يُقال عن السليقة الشعرية ● الوهايبي يعتقد أنه يكتب الشعر وليس يتلقاه من جهة مجهولة، وهو ضد ما يُقال عن السليقة الشعرية يقول الوهايبي “أنا ربما من قلة من الشعراء التونسيين، لم أكن أول من فعل ذلك، الذين حاولوا أن يوظفوا هذا التاريخ وهذا التراث وهذه البيئة”، كان يتحدث عن استلهامه لتاريخ تونس وأساطير الشمال الأفريقي والمدن التونسية القديمة. ثم يقول “حاولت أن أكتب قصيدة لها خصوصية تونسية ولا أدري هل أفلحت في هذا أم لا”. لقد احتفى به كبار الشعراء شاعرا حداثويا يستلهم تاريخ بلاده من غير أن يتراجع شعريا عن شروط الحداثة. ابن القيروان مزج التاريخ بالشعر وهو يعيش حياة وضعها الشعر في خدمة الفنون كلها. لا شيءَ فوقَ أديمِ هذي الأرضِ غير حزامِ سرجكَ يا أبي لا شيءَ أحزمةُ السفائن تلكَ أشرعةُ السفائن تلكَ طوّافونَ في سفنِ السواحلِ ــ أُهْبَةَ الإبْحارِ ــ ينتظرونَ في ريحٍ مؤاتيةٍ، كتابَ براءةِ الملكِ الدمشقيِّ الموانئُ كلّها رمْلٌ، ونجمُ الدبّ يبسُطُ ظلّه، والموجُ أهْدَأُ ما يكونُ اليومَ؛ لكنْ للسماءِ مِزاجُها للبحرِ منها ـ ما تشاءُ ـ رَصَاصُها وزُجاجُها جُزُرٌ لنا في الأرخبيل وهجرةٌ أخرى إلى البلقان فاليونان نطرق بابَ أوروبا تُرى أنكونُ يوما زُطَّها؟ ونطوفُها بذئابنا وكلابنا! وننامُ في القنواتِ تحتَ الثلجِ جنْبَ أرُومَةِ الأشجارِ يكفينا قليلٌ من شرابِ الرومِ صحنٌ من نقيعِ الرزِّ بعضُ مخلّل الأسماكِ مَسْلوقِ البطاطسِ أيّ شيءٍ نيّئٍ أو طازَجٍ عزْفٌ على العيدانِ في رَعَوِيّةٍ أبطالُها نحنُ الرعاةَ الهاربينَ من الجنوبِ؛ قدُودُها حَلَبيّةٌ “ردّي عليّ” ولا تردّ البنتُ مِنْ دَلٍّ ومِنْ خجلٍ، عليْنا.

مشاركة :