يــا نَسيــمَ الرِّيـحِ قُــولي لِـلـرَّشــا لَم يَــــزِدني الــوِرْدُ إلَّا عَطـَــشــا لـي حَــبيبٌ حُــبُّــهُ وَسْطَ الحَــشـا إِنْ يَشَأْ يَمـشـي عَلى خَـدِّي مَـشَى رُوحُـهُ رُوحـِـي ورُوحـِي رُوحُـهُ إِنْ يَـشَأْ شِئـتُ وإِنْ شِئـتُ يَــشـــا (الحلَّاج) قبل تناول مسرحيَّة «مأساة الحلَّاج» بالتحليل، فإنَّ من المفيد التعرُّف على جوانب من ترجمة الشاعر وانتمائه، فـ(صلاح عبدالصَّبور): أحد شعراء (مِصْر) المحدثين، وُلِد 1931م، وتخرَّج في (جامعة القاهرة- كليَّة الآداب)، متخصِّصًا في الأدب العَرَبي، وكانت له محاولاتٌ وأعمالٌ شِعريَّةٌ قبل دخوله الجامعة، نَمَتْ بازدياد ثقافته واطِّلاعه؛ وقد كان شغوفًا بمجال الأدب، والتاريخ، والفلسفة، والتصوُّف، وعِلم النفس، والاجتماع، تأثَّر في بداياته بـ(لويس عوض)، ثمَّ من بَعده تأثَّر بالشاعر الأمريكي الإنجليزي (ت. س. إليوت Thomas Stearns Eliot، -1965)، وغيره من شعراء الغرب وأدبائه، الذين أتاحتْ له قراءاته الاطِّلاع على أعمالهم قديمها أو ما عاصره، وهو ما طَبَعَ بعض الآثار منها على شِعره، بدأ حياته الأدبيَّة واقعيًّا اشتراكيًّا، ثمَّ تحوَّل إلى الوجوديَّة، مَعْنِيًّا بالقضايا الروحيَّة الجماليَّة، بتأثيرٍ من قراءاته في هذه المجالات، إلَّا أنَّه ظلَّ مخلصًا لاتِّجاهه الاشتراكيِّ الأوَّل.(1) ولعلَّ نظرةَ المذهب الاشتراكيِّ إلى الالتزام في الأدب، وأنَّه لا يقتصر على النَّثر، بل يشمل الشِّعر، كانت وراء إدخال (عبدالصَّبور) نزوعه الاشتراكيَّ في مسرحيَّته الشِّعريَّة «مأساة الحلَّاج»، التي نشرها 1965م. و(الحلَّاج)، هو: الحسين بن منصور، المولود حوالَى منتصف القرن الثالث الهجري، لَبِس «خِرْقة الصُّوفيَّة» بعد لقائه بـ(سهل التَّسْتُري) المتصوِّف الكبير، ولكنَّه نبذَ خِرْقة الصُّوفيَّة ليشارك الناس هموم حياتهم التي كان يعانيها بنفسه: من الفقر، والجوع، والعُرْي، وفساد السياسة، وغيرها من قضايا عصره، وكانت للحلَّاج رحلةٌ إلى (الهند)، عاد بعدها للإصلاح في (بغداد)، فاجتمع حوله الفقراء والمُعْوِزون.(2)، وقد اختُلِف في سبب صَلْبه: فهناك من ذهبَ إلى أنَّه صُلِب لدَوْرِهِ الاجتماعيِّ الذي لم يكن ليُرضِي السُّلطة الحاكمة، فحكمت عليه بالقتل صَلْبًا، بتُهمة الزَّندقة والكُفر والإفساد في الأرض، وهذا ما مال إليه (عبدالصَّبور) في مسرحيَّته، غير أنَّ فريقًا يذهب إلى أنَّ قتله كان بسبب ما صَرَّحَ به من اعتقادات فاسدةٍ، كالحلول، والمشاهَدة، وعُقِدتْ الجلسة الأخيرة لمحاكمته عام 309هـ، وتولَّى القضاء في ما اتُّهِم به: (أبو عُمَر الحمادي المالكي)، و(ابن سُريج الفقيه الشافعي)، وقاضٍ ثالثٌ عُرِف بـ(ابن سليمان)، ووقع الخلاف بين أولئك القُضاة، فكان أبو عُمَر وابن سليمان أَمْيَلَ إلى التسرُّع في إصدار الحُكم، غير مكترثَين بما تقتضيه مكانتُهما العدليَّة من تحقيق العدالة بِتَجَرُّدٍ تامٍّ، على حين كان ابن سُريج معتدلًا مُنْصِفًا، فغادرَ مجلس المحاكمة لمَّا لم يستجب زميلاه لنُصحه، في التريُّث والتثبُّت قبل الحُكم، هكذا صوَّرهم الشاعر في مسرحيَّته.(3) وعلى أيَّة حال- ومن دون أنْ نَلِجَّ في تحقيق وقائع هذه القِصَّة المحفوفة بغير قليلٍ من الغموض، أو أنْ ندخل في متاهات البحث التاريخيِّ لمعرفة الحقِّ من الباطل في هذه الأحداث- فإنَّه ينبغي أن ينصرف النظر عن مأساة (الحلَّاج) تاريخيًّا، إلى مأساة الحلَّاج مثالًا أو رمزًا مسرحيًّا، فلقد عبَّر (صلاح عبدالصَّبور) عن انتمائه الاشتراكي، وإيمانه بحقِّ الفقراء في أموال الأغنياء، تعبيرًا واضحًا وصادقًا من خلال مسرحيَّته هذه؛ مستغلًّا قِصَّة (الحلَّاج) ليُصوِّر للقارئ قضيَّة الالتزام الاشتراكي، بل ليُصوِّر، عبر الحلَّاج، قضيَّتَه هو، وقضيَّة معاصريه، ممَّن يُحَتِّم عليهم الالتزامُ الصمودَ بالكلمة في وجه السيف الظالم، وهو ما سيكون موضوع مقالنا الأسبوع المقبل. (1) انظر: بدوي، مصطفى، (1969)، مختارات من الشِّعر العَرَبي الحديث، (بيروت: دار النهار)، 262. (2) انظر: عبدالصَّبور، صلاح، (1972)، ديوان صلاح عبدالصَّبور، (بيروت: دار العودة)، 2: 605- 608. (3) انظر: م.ن، 2: 553- 601.
مشاركة :