يأخذ الطفل في تشكيل وعيه تدريجاً ومن ضمن الوعي تأتي مهارة التوقع، ولكن التوقع قد يصدق وقد يكذب وهو مبني على معطيات الخبرة التي تشكل مخزون الوعي بوقائع الحياة من حيث فهمها والتفاعل معها، ومن حيث التعرف على نظامها، فالسحاب إذا تلبد في السماء أصبح هطول المطر متوقعاً، والعرب يقولون «الحرب أولها الكلام»، والكلام بلغة المتنازعين يعطي إشارات بأن حرباً ستقع، ولكن قد لا تقع، وهنا يأتي مصدر الظنون التي هي وجه آخر للوعي بما أنها نظام ذهني للتوقع، ولكنها تسمى ظنوناً، لأنها توقعات لا تبنى على مقدمات مثل مقدمات الغيم للسحاب أو مقدمات اللغة للحرب، بل هي توقع غير مبني على علامات تسبقها بوضوح لا خلاف عليه بوصفه مقدمات لا أكثر، في حين يأتي الظن وكأنه وهمٌ أولي وربما يكون باعثه الرغبة أو الرهبة، وكلما تقوت الرغبة أو الرهبة مالت النفس لتصديق ظنونها خوفاً أو طمعاً، والإشكال سيكون في تحول الظن ليصبح هو بحد ذاته حجةً يُعتمد عليها في الحكم، خاصةً في العلاقات العامة، ويكثر أن تسمع من يصف نفسه بأن ظنونه لا تخيب، وهذه مرحلة خطرة في حياة الفرد وعلاقته مع الجماعة أو مع فرد آخر، حيث تدخل علاقاته معهم تحت هذا الظن الذي تمكن من صاحبه حتى أصبح يقيناً، وهو نوع من الخيال غير السوي والذي هو الوهم، والوهم في أصله هو خيال كأي خيال شعري أو سردي أو فني، غير أن الخيال الإيجابي هو الذي ينتهي ببنية فنية من نوع ما، وهذا هو أساس الأعمال الأدبية والجمالية الكبرى في كل الفنون، وإذا لم يفض الخيال لبنية متماسكة تصنع صوراً جمالية أو رسمة موحية، فستتحول البنية إلى تفكك غير منطقي وغير جمالي، وهنا سيكون حالةً مرضية وليس حالة إبداعية، والظن مثل ذلك في بنيته المفككة ومآله السلبي، وسيكون حالةً مرضية تمس العلاقات بين الذات ومحيطها، وهي جميعها صور أخرى للوعي الذي هو أهم خصائص العقل، لكنه تحول من الصحة للمرض، ولا يوجد بشر إلا ولديه ظنون، وخطرها أنها تصدق أحياناً، وصدقيتها خطيرةٌ خاصة إذا تصادف وصدقت ظنوننا مرة تلو مرة، ما يجعلنا نشعر بأن ظننا لا يخيب، وهنا يقع المحذور ويدخل الإنسان في دوامة شقاء، فيشقى ويشقي غيره كلما صدّق ظنونه، ومن أخطر ما يبتلى به المرء أن يسمح لظنونه بأن تدير علاقته مع الناس. وهذا ضربٌ من الغرور العقلي حين يصبح الإنسان مرجع ذاته، ومشكلته الأكبر في العلاقات العامة حين يسيطر الظن على تصوراته.
مشاركة :