(تأملات إيمانية في آيات القرآن الكريم)«وَانظُرْ إلى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا»

  • 11/4/2022
  • 01:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

د. محمد عطا مدني تُعرّف الوسائل التعليمية المتعددة أو المترافقة، التي يشار إليها بالإنجليزية بالمصطلح (Multimedia) بأنها تقنية توظف عدة عناصر ووسائل تعليمية مختلفة في شكلها ومحتواها واستخداماتها، وهي توجد في أشكال متعددة منها النصوص والأشكال والصور الثابتة والمتحركة والأصوات والنماذج والمجسمات والأشياء الحية والجمادات.. إلخ، والتي تستخدم لمعالجة فكرة معينة أو موضوع ما، من أجل تفعيل وتنشيط العملية التعليمية وجعلها مشوقة وممتعة للمتعلمين، وأيضا لجعل الموضوعات العلمية المعقدة سهلة الفهم، وباقية الأثر مدى طويلا.  وتستخدم تلك الوسائل المتعددة من أجل الاستجابة الفعالة لرغبات المتعلمين وقدراتهم المختلفة في استيعاب الدروس، ولمواجهة أساليب الإدراك المتباينة للمتعلمين وفروقهم الفردية.  وقد نجح استخدام التكنولوجيا التعليمية هذه في تطوير المناهج وطرق التدريس بكل دول العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، ما نتج عنه ارتفاع ملحوظ في مستوى المتعلمين، وتقليل عدد المتسربين من النظم التعليمية، بل قضت بلدان كثيرة على مشكلة التسرب من تلك المؤسسات نهائيا، وأصبحت عمليات التعليم والتعلم أكثر متعة وتشويقا واستدامة.  وقد يعجب الإخوة القراء إذا ذكرت لهم أن التربية القرآنية قد استخدمت هذه التقنية التعليمية الراقية منذ ألف وأربعمائة عام، وأوردتها بكل صفاتها وأركانها وعناصرها في آية من آيات القرآن الكريم، ولم ينتبه إليها كثير من التربويين. يقول المولى جلت قدرته في سورة البقرة: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّه مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إلى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) (البقرة 259). في هذا المثال يتمثل لنا موقف تعليمي مكتمل الأركان والشروط، تتضح عناصره كما يأتي: المرسل وهو الملك الذي أرسله الله سبحانه وتعالى للمتسائل عن قدرة الله على الإحياء، والمستقبل وهو المتعلم أو المتلقي أيا كان اسمه في التفاسير المختلفة، والرسالة أو عنوان الدرس وهي قدرة الله سبحانه وتعالى على إحياء الموتى مهما طالت مدة موتهم. وقد استخدمت في الدرس قناة اتصال هي عبارة عن صوت الملك الذي أرسله الله سبحانه وتعالى ليلقن المتعلم الدرس. وتمثلت طريقة التدريس في المناقشة والحوار باستخدام التقنيات التعليمية الآتية: الطعام والشراب، الحمار الذي مات وبليت عظامه. (وسائل تعليمية ثابتة)، العظام التي أنشزت ورفعت من الأرض، ثم التحمت مع بعضها (صور متحركة). اللحم الذي شاهده المتعلم وهو يكسو العظام (صور متحركة). جسد المتعلم (نموذج حي). ويمكن تحليل ذلك الموقف التعليمي تربويا كما يأتي: 1- كان سؤال الرجل عن القرية الخربة (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) وهو سؤال عن (الكيفية)، فالرجل مؤمن بقدرة الله سبحانه وتعالى على الإحياء (ويقال إنه العزير)، ولكنه يريد أن يعرف (كيف) يحيي الله هذه القرية بعد أن مات سكانها وبليت عظامهم واختلطت ببعضها..! وكانت الإجابة مدّعمة بتجربة عملية أجرتها التربية الربانية على ذلك السائل بإماتته مائة عام. 2- أحيا الله سبحانه وتعالى الرجل ثم سأله (عن طريق ملك أرسل إليه): (كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)، وبدأت التربية الربانية في تعليم السائل (كيفية) قدرة الله على الإحياء، باستخدام المعينات التعليمية المذكورة سابقا. 3- تركزت وسائل الإدراك بصورة رئيسية على حاستي السمع والبصر وهما حاستان تشكلان أهم مداخل التعلم، فالسمع تم به الحوار، والبصر استخدم في إدراك الوسائل التي تعلم بها السائل، وتكرر ذكره ثلاث مرات (فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ).. (وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ).. (وَانظُرْ إلى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا). 4- تم استخدام تقنيات تعليمية ثابتة هي الطعام والشراب والحمار الذي مات وبليت عظامه. 5- جسد المتعلم (نموذج حي): حيث شاهد عظامه تنشز ويكسوها اللحم مثل عظام أهل القرية الخربة لأن كلمة (العظام) جاءت مطلقة وليست محددة.  6- استخدم الموقف التعليمي التقنية التي نسميها اليوم (الصور المتحركة) إذ كيف يدرك المتعلم كيفية (إنشاز العظام) أي رفعها من مكانها وكسوتها باللحم إلا عن طريق الحركة؟  وكانت نتيجة هذا الموقف التعليمي الرباني المتقن هو (التبين) (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)، والتبين هو أعلى درجات الفهم والادراك، وقوله (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير): تسليم بقدرة الله سبحانه وتعالى على الإحياء، ودليل على الفهم والاستيعاب التام والمتقن للدرس؛ فقد كان المتعلم يعلم بقدرة الله استدلالا عن طريق (علم اليقين)، وهنا -في هذا الموقف التعليمي المتكامل العناصر- قد استوعبها باستخدام حاستي السمع والبصر، وباستخدام تقنيات تعليمية ربانية فأصبح علمها (حق اليقين)..! ويعتبر هذا الموقف التعليمي المكتمل الأركان معجزة ربانية تدل على كمال قدرته جل وعلا، فقد حدثت عملية الإحياء أمام المتعلم مرئية بالبصر، ووجدها في بدنه كما وجدها في الحمار. ورأى معجزة التحكم الإلهي في مسيرة الزمن، فقد (طوى) سبحانه وتعالى الزمن في مسألة الطعام والشراب فلم يفسدا، و(بسط) الزمن في شأن عظامه وعظام أهل القرية وعظام الحمار وكلها بليت، مع أنها متعاصرة في وقت واحد.  إن هذه الدراسة تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن التربية القرآنية قد سبقت كل النظم التربوية البشرية في تقديم نماذج وطرق تعلم فعالة ومشوقة وجاذبة للمتعلمين، كما أن نتائجها مضمونة التحقق للوصول إلى أعلى مراتب الفهم والإدراك في عمليات التعليم والتعلم التي لم يتوصل إليها البشر إلا بعد تجارب كثيرة، ومعاناة عبر حقب طويلة من الزمان، وقد أُطلق عليها حديثا نظم الحقائب التعليمية (Learning Packages) ذات الوسائل المترافقة التي تخدم موقفا تعليميا محددا، باستخدام عدة وسائل تعليمية معا لتأكيد وتبسيط عمليات التعليم والتعلم، التي انبثقت عنها البرمجيات التعليمية الحديثة (Learning software)، التي وصفها العالم التربوي سميث (Smith) بقوله: (إنها نظم تعليمية محكمة التركيب (Highly Structured)، وقد أصبحت الآن أهم أعمدة تطوير المناهج وطرق التدريس في بلدان العالم أجمع)، وقد نقلناها نحن المسلمين عن الغرب وطبقناها في مدارسنا، ولم ننتبه إلى أن أصولها قد وردت في القرآن الكريم الذى أرسله الله سبحانه وتعالى إلينا، كما جاء في قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَل?نَاهُ إِلَي?كَ مُبَارَك لِّيَدَّبَّرُو?اْ ءَايَاتِه وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ?ل?أَل?بَابِ) (ص 29). (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل 89). (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (القلم 5). 

مشاركة :