شيخة الجابري تكتب: الشتاء وحنين الشعراء

  • 12/12/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

على استحياء يتسلل، ينثر نسماته الدافئة، يقترب من القلوب يلامسها، تعنّ عليها الذكريات اللطيفة، فالبرد بما يبعثه من قشعريرة ودفء يحرّك الشجن، ويطرق أبواب الحنين، ويستدعي كل الفرح، وكل الحزن، وينبري في أنانية جميلة يستدعي كل شيء ليجعلك مع فيروز تشدو مشتاقاً أو عاشقاً «ليالي أيلول بْتشْبَه عينك» أو تروح نحو«سلّم لي عليه، وبوّس لي عينه»، وهكذا يفزّز الشتاء بخطواته الوئيدة الدافئة قلوب المغرمين، المنتمين إلى الحب بأطيافه الشفيفة البهيّة. ومع الشتاء وإطلالته العذيّة يأتيك كميدش بن نعمان متهادياً بعصاه المُترعةِ بالشعر «بندب نسيم الصبايا/ منّي بأزكى التحايا/ للسيدات الغواني/ لي جدّملّلي هدايا»، وهكذا تصير متنقلاً من حالة إلى أخرى أكثر شفافية، واحتياجاً لداخلك النابض بالحب، المشتاق إلى اللحظات التي تجعلك بين حالتين إما عاشقٌ أشقاه الهوى، وإما مشتاقٌ أكلهُ الوجد وبالشوق اكتوى. هي الحياة بمواقفها، بعاطفتها، بعطفها، بشقائها، بهدأتها وحنوّها، تمنحك ما تشتهيه، وتمنعك مما ترتجيه، وأنت أيها الكائن الهشّ في داخلك العميق من الألم، والعصّي على الشفاء من الجروح، وحده الشتاء يسلّط صوته اللاهب عليك، ووحده الشتاء من أتعب الشعراء، واستفز مشاعرهم وقوافيهم، وكأنك وأنت تلتحف البرد تتذكر قول محمد بن سوقات «هبت نسايم من جدا حلو اللّعس/ مرّت ويابت لي شذاه ونسمته/ واستارقت عيني وجفني ما نعس/ سهران وأتذكر ليالي سهرته». وللشتاء في معاطف الشعراء الجميل من القوافي التي أججّت وألهبت مشاعر العشاق والمحبّين، وقد تغنى الكثيرون مع السياب بأنشودة المطر، فهو الناضح بالحب والوجع، وهو القائل «ومنذ أنْ كنَّا صغاراً، كانتْ السماءُ، تغيمُ في الشتاءْ، ويهطلُ المطر وكلَّ عامٍ حين يعشبُ الثرى نجوعْ، ما مرَّ عامٌ والعراقِ ليس فيه جوعْ مطر، مطر، مطر» هو الشتاء من يستدعي آلام الشعراء ويستنطق دواخلهم بالجمال والعذابات الشفيفة والحنين. ومع النّسيمات العليلة التي تهبّ الآن في مدينتي الحبيبة «العين» تطوف في الذاكرة الأيام الحلوة، والرحلات الأسرية الشتوية التي مع هذا الطقس الجميل تعود في أشكال جديدة، وأماكن يحنّ لها القلب كلما أوغلنا في عصر الرقمنة لنبتعد عن العوالم التي نُحب، حيث البرّ والصحراء الشاسعة، والمطر الذي تُعشب الأرض إثر هطوله، فتفوح رائحة الحطب والعطر والخبز الطازج الشّهي، وتصير الحياة أجمل، ويبقى الشتاء ألطف الفصول وأبهاها. وفي الشتاء، يحلو لنا أن نشدو مع الأمير بدر بن عبدالمحسن جمرة غضى و«بردان أنا تكفى.. أبي احترق بدفا.. لعيونك التحنان.. فعيونك المنفى».

مشاركة :