د. عبدالله الغذامي يكتب: كم نحن بحاجة للصمت

  • 12/24/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كان معنا أستاذ فرنسي في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة يدرّس اللغة الفرنسية، وقبل حضوره لجدة، كان في ماليزيا، يعمل أستاذاً للغة الفرنسية، وظل هناك بضع سنوات، ومن قصصه الطريفة أنه حين أوشك على المغادرة طلبوا منه محاضرةً وداعية، فاختار أن يتكلم عن سني مقامه بينهم، ويقول: إنه اختار أن يكون صريحاً وصادقاً في كشف انطباعاته، وربما أخذه هاجس السرد والتفنن في القص فمالت محاضرته لصراحة تفوق الحد، ونقد الحياة الاجتماعية ونظام السلوك ولم يجامل، بل بالغ في رسم صور ساخرة دفعه لها إغراء القول أو فتنة القول حسب مصطلح الجاحظ، وكان على استعداد لتقبل ردود فعلهم مهما كانت وربما رغب برد فعل غاضب بما أنه اتخذ قرار المصارحة، ولكن الذي حدث كان مفاجأةً صادمةً له، وهو أن رئيس الجلسة حين فتح باب النقاش حول حديث الأستاذ الفرنسي تحولت القاعة لصمت مطبق، ولم يتقدم أحد للكلام ولم ترتفع أي يد لطلب التعليق وظل هو يقلب وجهه في وجوه الحاضرين وكأنه يستشفعهم بأن يتحدثوا أو يصرخوا في وجهه أو يشتموه أو يطردوه أو في الأقل يعاتبوه، ولكن الصمت عم، فأخذ الفرنسي يلملم أوراقه ويلملم خيبته وسوء طالعه. كان يروي لنا القصة، ويقول إن ذلك أخطر رد فعل تعرض له في حياته، وإنه تلقى درساً مرعباً في فن التوبيخ والثأر من سلاطة لسانه، وقد تبدى عليه التوتر وهو يروي القصة رغم مرور سنين على وقوعها وكيف أنه أحس بالوجع النفسي وخيبة الشعور الذي ظل مغروساً في نفسه. هنا يتبين دور الصمت إذا جاء في وقته وكيف يصبح أبلغَ من كل صيغ القول وفنون التلفظ. على أن دلالات الصمت وقوة فاعليتها لا تقف عند مثل هذه المواقف مع عظمتها وقوة دلالتها، لكننا حقاً نحتاج الصمت في مواقف كثيرةٍ في حياتنا، حيث إن الضجيج هو الأغلب في زمننا الحديث، حتى كتابة «تغريدة» في «تويتر» تتحول لضجيج رغم عدم بروز الأصوات، ورسالة على الـ«واتس» أصبحت بمثابة جرس إنذار يكسر هدوءنا وكأنه يختار توقيتات نكون فيها في شغل ذاتي مع نفوسنا، فيكسر تجلياتنا الذاتية ويفرض علينا العودة للواقع الصاخب حسب حال الرسالة الواردة، وهذا يشير لحاجتنا للصمت ليس صمتنا فقط، بل صمت «كل ما حولنا»، وذلك مذ أصبح الضجيج هو كل شيء .. حتى في المنام. لقد نسيت أجسادنا النوم الصامت وصرنا ندخل في نوم صاخب في الأقل صوت المكيف الذي تعودنا عليه لدرجة أنه لو سكت تيقظنا طلباً لعودة ضجيجه فوق رؤوسنا، ومثله الضجيج عبر أجهزة صغيرة نضعها في جيوبنا انتظاراً لصراخها فينا سواء كنا في صلاة أو ممشى أو في حديث مع غيرنا، وحين يأتي صوتها يتوقف الكل حتى من هم معك ليمنحوك مجالاً لتنشغل بالضجيج الذي صرخ بك. نحتاج لابتكار خلوات نلجأ إليها لكي ترتاح أرواحنا من الضجيج، والمثال الماليزي مع الفرنسي سيأتي ليكون مثالاً لنجاح الصمت في فعل ما لا يفعله الصوت مهما مهر الصوت في التعبير. وفي الختام يقول أبو نواس: ‏مُتْ بِداءِ الصمتِ خيرٌ ... لكَ من داء الكلام ‏إنما السالِمُ مَن ألــ ... جَمَ فاه بلِجام

مشاركة :