إذا كنا نبحث عن السعادة حقاً، فماذا يدفعنا لما يناقضها؟ يسعى الناس للشعور بمشاعر طيبة.. للاستمتاع والطمأنينة والفرحة.. حسب نظرية إدارة الحالة المزاجية «مود مانجمنت ثيوري»، فإن الإنسان مدفوع لاتخاذ سلوكيات تدرأ عنه المزاج السيئ.. مثل هذا الأمر تجده حتى في الكائنات البدائية وحيدة الخلية كالأمبيا والبراميسيوم، التي تبتعد عن مصدر الألم. هذا ما نراه في الإعلام.. يشاهد الناس الأعمال الترفيهية التي تضبط مزاجهم.. من يعانون ضغوطاً حياتية يقبلون على الأعمال الفنية الخفيفة التي تريح أعصابهم ولا تدفعهم للتفكير.. المحروم من الحب يشاهد أفلاماً رومانسية.. والمغترب يشاهد أفلاماً تدور أحداثها في وطنه.. كل هذا منطقي وبدهي، لكنه لا يجيب السؤال: لماذا نشاهد أفلام الرعب؟ ما سر جاذبية هذه الأفلام التي تجعل المتلقي يجلس على طرف مقعده من فرط الترقب أو ينقبض صدره من هول الأحداث أو يتقلص وجهه ويتراجع بشكل لا إرادي عن الشاشة وكأنه يبتعد عن مصدر الخطر؟ وأيضاً الأفلام الحزينة.. ماذا يدفع شخصاً لمتابعة مسلسل بمحض إرادته، رغم أنه يعرف جيداً أنه سوف يسبب ألمه ويثير أوجاعه؟ طرحت هذه الأسئلة على متخصص في نظرية إدارة الحالة المزاجية، بروفيسور علم نفس وسائل الإعلام بجامعة هامبورج «ليونارد راينيك» فأخبرني بأن هناك تفسيرات عديدة لهذه الظاهرة العجيبة.. منها مثلاً: - المقارنات الاجتماعية: أنت تشاهد فيلم الرعب، لكنك في حقيقة الأمر تشعر بالسعادة لأنك لست مكان أبطاله.. أو تشاهد الفيلم الحزين، فيزداد تقديرك لحياتك مدركاً أنها ليست بهذا السوء.. - ومنها أيضاً تأجيل المتعة «تيليك هيدونيزم»: حيث تشاهد هذا الفيلم الكئيب أو الحزين وأنت تدرك تماماً أنه سوف ينتهي بنهاية سعيدة.. هذا ما يحدث غالباً في حبكات هوليوود الكلاسيكية، حيث النهاية السعيدة آتية لا ريب فيها حيث يهزم الشرير أو تنتهي الأحزان.. - وكذلك أيضاً ما وراء المشاعر «ميتا إيموشنز»: حيث لا تعتبر المشاعر السلبية شيئاً مذموماً في ذاته، حيث يمكن للشخص إضفاء معنى وراءها يغير من هذه الخبرة الوجدانية، فالحزن دليل على التعاطف، ومواجهة الترقب والخوف يعني متعة المغامرة.. أرسل لي الرجل -شاكراً- عدة دراسات له تطور من فهمنا لهذه النظرية، حيث وجد أن الهدف الذي نشاهد من أجله الأعمال الفنية لا يقتصر على تعديل الحالة المزاجية، بل يتجاوزه لمعانٍ أكثر تجريداً، كالرغبة في زيادة الرضا أو البحث عن معنى الحياة.. لهذا يشاهد أناس ما يدفعهم للتفكير والتأمل أو تأكيد قيمة عليا.. كالتضحية أو التفاني أو التحدي أو المثابرة.. إجابات منطقية جداً كما ترى.. هناك تفسير آخر، أعتقد أن في الإمكان إضافته على ما سبق.. وهو أن الإنسان يسعى عموماً لإثراء تجربته الحياتية، وتعويض ما ينقصها.. إذ لا يشاهد أفلام الرعب من يعيش في تهديد مثلاً.. بل شخص رائق البال تواق لقدر من الأدرينالين لمغالبة حياة روتينية مملة خالية من التحديات أو المخاوف.. أو مراهق لا يجد متنفساً لطاقته غير أفلام مغامرات أو ألعاب فيديو قتالية تعطيه الإحساس بمواجهة الخطر.. ففي النهاية، يعرف المشاهد أن المحتوى الترفيهي غير حقيقي، وأنه آمن في كرسيه قادر على إغلاق الشاشة في أي لحظة كي يعود لحياته الطبيعية.. ممتناً أن الوحش لا يطارده! هناك متعة في المشاعر السلبية إذا حرمنا منها، وإذا خلت الحياة من منغصات لاخترعها المرء لتنويع تجاربه الوجدانية!
مشاركة :