في منتصف الليل الساكن، وبين حفاوة الأهل والجيران، طافت الكاتبة والروائية عزة وهي ابنة سبعة أيام، شوارع المدينة عندما حملها خالها لترى الدنيا كما حكى لها في ما بعد، فأصبحت مسكونة بنبض الشارع، وحركة البشر، تفضل السير على الأقدام وتأمل الجدران، أما الليل فملأها بصمته، ومن هنا جاء سردها الرهيف، واللاذع في آنٍ، لكنها في كل الأحوال ظلت مسكونة بالمحبة. في زيارتنا الثقافية لها، تفتح رشاد قلبها على مصراعيه، لتتدفق ذكريات الطفولة والنشأة: وُلدتُ في منتصف الليل، أميل لاعتبار هذا وثيق العلاقة بأني كنت كائناً ليلياً بالأخص في مقتبل حياتي، فالليل ظل يمنحني الطاقة والتوهج وصفاء الذهن لفترة طويلة، في اليوم السابع لمولدي حملني خالي الصغير وطاف بي المدينة من أولها لآخرها، ربما لهذا صرتُ فيما بعد مسكونة بنبض الشوارع، أفضِّل السير على الأقدام وتأمل الجدران والبوّابات، طاف بي خالي ليريني للجيران والأصدقاء، تلقيت عشرات القُبلات وحفاوة حقيقية لأول حفيدة لجَدي لأمي المحبوب من الأهالي؛ منحني هذا الدفء والاهتمام ثقة بالنفس فما إن بلغت الخامسة من عمري حتى صرت الشيطانة الصغيرة التي لا تكف عن التنطيط، التي تغلِّب أمها في كل صغيرة وكبيرة، و.. اللِمضة التي لا تفوت قولاً ولا لفتة من دون تعليق، والمعروفة لدى الباعة بنصاحتها لأنها تتفوق عليهم في الحساب وتدقق في كل شيء ولا تَدَع أحداً يضحك عليها. كنت المولودة الأولى لوالدي المتعلمَين المثقفَين، مغمورة بالحب والحنان والعطاء اللامشروط؛ في الجانب الآخر ثمة مخاوف عليّ وعلى أختيّ الصغيرتين: خلي بالك من نفسك ومن أختك، أوعي تتوه منك، فكان حب الوالدين مظلة حامية، دافئة وحنونة، لكن استمرار خوفهما عليّ مع تقدمي في العمر صار يعوق انطلاقي: نوعية الدراسة، نوعية الأنشطة، وأتذكر أني كنت أحب الموسيقى لكني لم أستكمل تدريباتها لأن والدتي خافت من بقائي بالمدرسة بعد انتهاء الحصص الأساسية، وسرعان ما أصابتني العدوى بهذا الخوف الذي لم أتعاف منه بسهولة، وحرمتُ نفسي من أشياء كثيرة، كالرحلات وغيرها؛ وربما صرت أكثر تشدداً على نفسي من أبوي، وأتصور أنني مدينة للمعرفة بالأساس، فهي التي ساعدتني على انفتاح أفقي وبناء ذاتي وأيضاً على استقلاليتي بالتخلص من تلك المخاوف. صبية انطوائية قليلة الخروج للمنتزهات، تأنف الالتزام بواجبات الزيارات الاجتماعية للأهل والأصدقاء؛ صبية خبأت شيطنتها وعنادها ولماضتها القديمة داخلها، أكثر ما يناسبها، فيما يبدو، هو القراءة التي تمنحها فرصة محاورة أفكارها وذاتها التي قد تحتد لتصير صراعاً، وقد ترق لتصير لحناً، وهناك في ذلك العالم تكتشف فجأة ولعها بنغم الكلمات، بالفروق الطفيفة بين كل كلمة وأخرى، بين كل مفردة وأخرى، نبرة وأخرى، إيقاع وآخر. في ذلك العالم، عثرت على متعتها، وراحت تنسج قرابة روحية وفكرية من نوع ما، تربطها بهؤلاء البشر المختلفين عن باقي البشر الأدباء الذين تراهم ثواراً رغم أنفهم، خارجين على المألوف دوماً، يمقتون التكرار والرتابة. تروي رشاد عن بدايات مرحلة الكتابة قائلة: أتذكر أنني كتبت الشعر في المرحلة الثانوية ثم تأكدت في فترة الجامعة أنني مسكونة بالسرد، نشرت قصصي في مجلات حائط، وأخرى ورقية، كنا ندخر من مصروفنا الشخصي المحدود لكي ندفع تكاليف إصدارها بشكل راقٍ يليق بكتاباتنا. بعد التخرج انشغلت فترة بالعمل المهني تقول رشاد عدت بعدها للكتابة بحماس أكبر، وبثورة حقيقية على تقاعسي عن عبور الحدود الجغرافية لإقامتي، وعبور جغرافيا مخاوفي كذلك، ولهذا سعيت إلى نشر قصصي في أهم المطبوعات، فنُشرت أول قصة لي بمجلة سطور، بعدها تتالى النشر بجريدة أخبار الأدب وجريدة القاهرة ومجلة أدب ونقد، كل ذلك قبل صدور روايتي الأولى ذاكرة التيه عام 2003، ولم تصدر هذه القصص في مجموعة أحب نورا.. أكره نورهان إلا في عام 2005، وبعدهما كنت أتصور أنني اكتسبت جرأة الكتابة كأولئك الذين يصدرون روايتين كل سنة ويُفصِّلون سترتين أيضاً، ولم يكن هذا صحيحاً، فلم أنشر قصص نصف ضوء إلا عام 2009، ثم قصص بنات أحلامي في 2013، ورواية شجرة اللبخ 2014، ما أود قوله هو إن رهبة الكتابة لا تقل بل تزداد، فكلما تطور المبدع صار مُتطلِّباً أكثر للكتابة الجيدة. تواصل رشاد: أستمتع بالكتابة.. هذا هو الشيء الأهم.. ومن حسن الحظ أن مصدر متعتي يمنحني بنفس الوقت فرصة للتعبير عن أفكاري وأحلامي وكوابيسي وإحباطاتي، وحيث إنني لا أعيش وحدي في العالم فمن الطبيعي أن تشف الكتابة مرة عن همومي الشخصية ومحاولات فهمي لذاتي، ومرة أخرى عن رؤيتي للعالم وتصوراتي عن مظالمه ومشكلاته؛ ومرة ثالثة تجدل هذا كله في نص واحد، الكتابة كمتعة تصاحبها كذلك مساحة للتواصل مع الآخرين، لا أظن أن لديّ رسالة محددة أود إيصالها لأي أحد، لديّ فقط ما أقوله، فالكتابة هي أسلوبي، آلتي للعزف، أو صوت غنائي. ما قيمة أن أمشي دون جناحين يحملانني إلى عوالم تعجز قدماي عن الوصول إليها؟ هناك عوالم دائماً ما تسعى عزة رشاد للوصول إليها عبر الكتابة، فهي ترى أن المبدع الحقيقي دائماً ما يرنو للأفضل؛ يحلم بعالم أجمل يستحقه بنو البشر، لكنها ترى أن الكتابة ليست بديلاً عن الحياة، ولا تخلق تلك العوالم، بل تبحث عنها. تقول صاحبة شجرة اللبخ: لو حاولت الكتابة خلق جنة فاضلة لكانت طوباوية زائفة، فالكتابة الجادة العميقة المهمومة تضع تجليات أزمة الوجود الإنساني: كالرتابة والموت والقدر، مثلاً، أو تجليات الظلم والقمع والزيف مثلاً: تضعها تحت المجهر كي تُتاح رؤيتها من كل الزوايا، ما أقصده هو أن سلطة الكتابة ربما تكون في الهدم أكثر منها في البناء، هدم المألوف الرتيب العاجز عن الاستجابة لأسئلة الحياة وحيرتها، الهدم كثورة على الاغتراب عن الذات وافتقاد معنى الحياة وجدوى الوجود؛ الكاتب يحتج على البشاعة بقلمه وهذا أضعف الإيمان. ثمة عذوبة تنبعث من نصوصها، وشاعرية تتبدى من السرد المُرهف، فعزة رشاد دائماً ما تُنشد تغيير الواقع المتردي بالمحبة لا بالصدام، هنا توضح: أتصور أنه بين المحبة والصِدام خيط رفيع، وكتابتي تُشير إلى مدى البساطة التي ينقطع بها هذا الخيط، ففي حين تُظهر قوة المحبة من جهة، فإنها تكشف، من جهة أخرى، عن هشاشتها إن لم تدعمها محبة مقابلة، وربما يُفسر هذا كيفية التحول من المحبة إلى نقيضها. غير أنه ثمة فارق أود الإشارة إليه الكلام لرشاد ففي المجال العام نحتج على ما لا يعجبنا بالسياسة، الاقتصاد.. إلخ، ونطالب بسهولة بتغيير الحكومة مثلاً، أما في المجال الخاص: علاقات الحب والترابط الأسري: فإننا نسعى إلى إنجاحها، ونبذل جهداً عاتياً قبل أن نرفع راية الاستسلام للفراق، لا أميل إلى كتابة محرضة على الكراهية: كراهية الآخر، كراهية العالم، كراهية الذات، أما عذوبة الكتابة فربما تعود للصدق في التعبير وعدم الاستعلاء على الضعف الإنساني أو التباهي بإنكاره. لا تنشغل عزة رشاد بقضايا التجريب أو التقنيات، بل إنها مستغرقة في الغوص في نفوس شخوصها والتعمق في الجانب السيكولوجي لهم، فصاحبة بنات أحلامي ليس لديها تصور صارم عن الكتابة: أتصور أنني أتحرك في المسافة المناوئة لأمرين: المناوئة للأدب باعتباره غطاء للأيديولوجي: سياسي أو حقوقي.. إلخ. وكذلك المناوئة للأدب ككتابة زخرفية خاوية من الروح هموم ومشكلات وهواجس، التي يتواصل خلالها المبدع بالمتلقي، والمتلقي بالآخر، وهذا يجعلني أعمل على تطوير معارفي، وأدواتي الفنية معاً. تجمع رشاد بين مهنتي الطب والكتابة، فتداوي الجسد والروح معاً، لكنها لا ترى أن ذلك يعد إدراكاً كلياً لمأساة الإنسان، إذ تقول: الأدب هو اهتمامي الأساسي، ولا أظن حتى أبرع الأطباء ولا أكثر الأدباء موهبة والتزاماً ينجحون في الإدراك الشامل لمأساة الإنسان، إنها فقط محاولات، خطوات محدودة جداً وجهود لا بد أن تتضافر وإلا لذهبت هباءً، فتجدين الأدب وعلم النفس يتبادلان الدعم أحدهما للآخر، تجدين نفس العلاقة بين الفن والعلم، إنهما جناحا طائر الحضارة الإنسانية لكي يتوازن ولكي يطير. من تفاصيل الحياة البسيطة اليومية التي تمضي دون انتصارات استثنائية أو انكسارات مدوية، تتشكل العوالم السردية لعزة رشاد، فهي قادرة على إنتاج الفن من مادة الحياة البسيطة، لا تفضل الموضوعات الصاخبة الزاعقة، وتوضح: أداة الحياة البسيطة هي الأقرب للتعبير في بعض القصص، وبشكل عام فأنا لا أكتب عن البشر بوصفهم ملائكة ولا بوصفهم شياطين بالمقابل، فهم دوماً مركب لكن هذا التركيب ليس مجانياً ولا يكتنفه غموض شامل، لا، فأنا أحترم عقلي وعقل المتلقي وكذلك ذائقتي وذائقته، في كتاباتي لا أميل للمباشرة ولا للفجاجة، فالسرد القصصي والروائي، برأيي، هو فن قبل أي شيء، والفن تلميح لا تصريح، تعبير رهيف كخفة ريشة الفنان لكنه أمضى أثراً من طلقة الصاروخ. هناك كثير من العنف يصل لحد القتل، في القصص والروايات، كثير من الكراهية، من الزعيق، لكن هذا لا يعني أن القصة ذاتها تكون زاعقة، بل على العكس فقد وصف البعض القصص التي أكتبها بالعذوبة والشاعرية، لماذا؟ لأن الكتابة فن. تقدم عزة رشاد عذابات المرأة دون السقوط في فخ الكتابة النسوية التي تنظر للمرأة بصفتها كائناً خاصاً تعزله طبيعته البيولوجية عن المجتمع، هنا تقول: أنا كاتبة تجد نفسها في الكتابة عن البشر جميعاً، وكوني أكتب أكثر عن معاناة المرأة فبسبب تعرضها، أكثر من الرجل، لظلم وقهر الأنظمة القمعية والمجتمعات المتخلفة، وهذه حقيقة مرصودة ببيانات ومعلومات، وهذا ما يبعدني تماماً عن شُبهة الانحياز، أما بالنسبة إلى كتابة المرأة فثمة حساسية في كتابة النساء مختلفة عن حساسية كتابة الرجال، لكن هذا لا يضفي على كتابة أي منهما أفضلية، فقط يعبر عن اختلاف ما، أما القيمة فهي للعمل ذاته.
مشاركة :