يقول سونبين القائد العسكري الصيني الفذ الذي يعد مؤسس العسكرية الصينية، في كتابه "فن الحرب عند سونبين" أحد أهم الكتب الصينية التراثية المهمة الخاصة بفنون القتال والذي اكتُشِف عام 1972 بفضلِ التنقيبات الأثرية، ودون فيه خبرته العسكرية والقتالية "لا يغتر في ساحة المعارك إلا قائد جاهل غير بصير، ولا يَتيه صلفا إلا قائد جبان.. إن مَن أعوزَته التجرِبةُ والعلم وفنون القتال، لا بد سيعلق كل آمال النصر على المصادفات". الكتاب ترجمه وقدم له بمقدمة تحمل رؤى تاريخية وثقافية تفصيلية حول فن الحرب الصيني وعلاقته بالفلسفة والسياسة الناقد الأديب محسن فرجاني أحد أبرز المترجمين من الصينية إلى العربية، مؤكدا أن رجال العسكرية جزء لا يتجزَّأ من البناء الفلسفي الصيني، سواء بما هو مقرر من الخصائص العامة للأصول الفكرية التي استندوا إليها في إقامة نظرياتهم، أو فيما قرَّروه هم بأنفسهم أو ابتكروه من مقولات عامة، مثلهم كمثل الفلاسفة القدماء في استخدامهم للأفكار وسيلة لبناء الدول والإمبراطوريات، وفي الحفاظ على الكيان الوطني، إذ بقيت العسكرية الصينية ـ تقليديًّا وعلى مرِّ التاريخ ـ أعظم عنصر في منظومة الخدمة الوطنية الصينية بما رأته من توظيف للسلاح يستهدف غايات سياسية بالأساس "وبالطبع فهذا يقود إلى استنتاج بأن الفلسفة الصينية، هي الأخرى، كانت ابنة بيئتها الضيِّقة، لصيقة موطنها بالدرجة الأولى، مع موجة انتشار ضئيلة في الجوار المتاخم" ويمكن ملاحظة ذلك من مقولة يعدُّها النقاد استقراءً عامًّا أو حكمًا شاملًا، في حين أنها تتعلَّق بخصوصية الداخل الصيني أكثر من أي معنًى آخَر. تلك هي مقولة سونزي التي فحواها "إن الحرب مسألة ذات شأن بالنسبة للدولة، وهي تتعلَّق ببقاء وبناء الأمم "اقرأ الدويلات". ويرى فرجاني في مقدمة الترجمة الصادرة عن مؤسسة هنداوي 2023 أن أهم أركان الفكر الاستراتيجي الصيني القديم يتركَّز فيما قامت عليه أفكار مدرستين اثنتين لا ثالث لهما:أولاهما: مدرسة رجال الفكر المعروفين باسم "تسونغ هنغ" أي: "مدرسة المناورات السياسية" وهم رجال التخطيط السياسي والعسكري الصيني القديم، وقد قدمت لهم في ترجمة كتاب "سياسات الدول المتحاربة" الجزء الأول، الصادر عن المركز القومي للترجمة، وكانوا قد لعبوا أدوارًا مهمة في الصراع الدائر بين الدويلات الصينية إبَّان فترة الدول المتحاربة.ثانيتهما: مدرسة المفكِّرين العسكريين الذين صاغوا نظرياتهم في مؤلَّفات نظرية وكانت لهم إسهامات بارزة في مجال التطبيق الفعلي لآرائهم بحُكم ما تولوه من وظائف عسكرية أو سياسية في فترات مختلفة، وهم أولئك النفر الذين استبعدتهم تصنيفات النقاد من خانة الفلاسفة لتضعهم في صفوف الإدارة، باعتبارهم موظفين رسميين لا أكثر، في حين أنهم بمنطلقاتهم النظرية كانوا أقرب للفلاسفة والمنظِّرين منهم لرجال الحرب المحترفين.وبهذا المعنى أقدِّم لهم، هنا، وأترجم محتويات هذا الكتاب بوصفه نصًّا فلسفيًّا لمفكِّر عاش في العصر القديم، كغيره من الفلاسفة، بغير اسم معروف ولا تاريخ ميلاد أو وفاة، ولا حتى قبر يضم رفاته، للدرجة التي حدت بكثير من الدارسين إلى التشكيك في وجود مثل هؤلاء العباقرة أصلًا. ويلفت فرجاني إلى أن الكتب التي تحمل عنوان "فن الحرب" في المدونات العسكرية الصينية كثيرة جدا، وفيما عدا الكتاب المشهور ﻟ"سونزي"، فهناك "فن الحرب عند سيمافا"، "فن الحرب عند كونمين"، "فن الحرب عند ليجين" ولولا خشية الإطالة والملل الذي قد يصيب حضرات القرَّاء، لمضيتُ إلى آخِر هذه التَّقْدِمة في ذِكر كتب ومذاهب فنون الحرب والاستراتيجية الموروثة عن الحضارة الصينية القديمة، حتى لنكاد نقرِّر بأن التراث الصيني لم يبدع سوى فنون القتال أو نصل إلى انطباع بأن الصين هي أمة الحرب والقتال، وليس عجيبًا في تاريخ أمة أن تشتهر بالقتال "الحضارة الرومانية انتشرت بحدِّ السيف!" لكن الحق أن الحرب هنا جزءمن فلسفة سياسية واجتماعية شاملة تهدف إلى التسوية، وانظر مثلًا لكل تلك الفترة المشتعلة منذ عصر "الدول المتحاربة" وصولًا إلى زمن أسرة تشين، تلك السنين التي بلغت أكثر من مائتي سنة أو تزيد (تقريبًا، من ٤٧٠ إلى ٢٠٦ق.م.) وتأمل، ألا تجد أن صيغة الوحدة الصينية الشاملة هي التي كانت النتيجة الخاتمة على الإمبراطور تسين شيهوانغ؟ حتى إنك لتقول بأن الصين مرَّت بالحرب بحثًا عن تسوية لنزاع انتهى في المطاف الأخير بالوحدة الأولى على مرِّ تاريخها الطويل، لم تأتِ أعظم وحدة إلا بعد أطول صراع بين جنبات الأمة الواحدة، أو هكذا تبدو المسألة باختصار شديد. وقال إن أغرب وأعجب شيء هو أن كل المدارس الفكرية والفلسفية التي تميز الصين عن غيرها من الأمم هي تلك التي تمخض عنها ذلك الزمان البعيد "زمن الدول المتحاربة"، وقد ترافق الإنتاج الفكري في المجال العسكري مع النظر في شئون المجتمع على المستوى النظري التأملي في الإنتاج الفلسفي، وكان رجال الحرب جزءًا من التركيبة الثقافية والإبداعية، والفارق بين المفكِّر والمثقِّف والشاعر والمفكر الاستراتيجي والمنظر الحربي، ليس كبيرًا للدرجة التي يمكن أن تبدو للوهلة الأولى "كان ماو تسي تونغ أشهر رجال القرن العشرين، مثقَّفًا، وسياسيًّا، وزعيمًا، وشاعرًا وناقدًا للكتب الكلاسيكية ـ بحكم قراءاته الواسعة منذ أنْ كان يعمل أمين مكتبة عامة أول حياته ـ وكانت كتاباته العسكرية تمثِّل قِمَّة نضجه، بل إنها تأتي في الصدارة من بين أهم الكتابات والتحليلات العسكرية، خصوصًا كتاباته حول "حرب العصابات".. إلخ، ولا غرو فهو في جزء من تكوينه الفكري، نتاج ثقافة صينية تقليدية ـ لنتفق على ذلك، بدون كبير اعتراض ـ تعتد كثيرًا بالكتابة في نظريات الحرب، بوصفها إبداعًا ذا درجة عالية من الرقي، لكن تلك مسألة أخرى. ولفت فرجاني إلى إن كتب التراث العسكري أدخل في نطاق الفلسفة الاجتماعية منها في حساب مهارات الحرب وتكتيك القتال، وبرغم كثرتها، فلم يكُن مقرَّرًا منها على المشتغلين بمهام التخطيط، سوى سبعة فقط، وهو تصنيف كان ساريًا منذ عهد أسرة سونغ، برغم شكوك النقاد حول صحة نسبة بعض هذه المؤلفات إلى أصحابها، أما تلك المؤلفات المعتبرة، فهي على سبيل الحصر: أولا "فن الحرب عند سونزي"، ثانيا كتاب فنون الحرب الستة "ليو طاو"، ثالثا "كتاب أوتسي"، رابعا "كتاب ويلياو تسي"، خامسا كتاب الخطط الثلاث "سان لو"، سادسا "كتاب سيما فا"، سابعا "كتاب محاورات لويقون". كتاب "فن الحرب لسونبين" عثر عليه في السابع من فبراير/شباط عام 1972، أثناء البحث في إحدى الحفائر الأثرية، بمنطقة شاندونغ في الصين، وُجد على هيئة ثلاثمائة وأربع وستين قطعة من رقائق الخيزران، مقسمة محتوياتها إلى بابين كبيرين، في كلٍّ منها خمسة عشر فصلًا. نصه وفقا لفرجاني"يحمل السمات الفكرية لسونبين، بطبيعة انحيازه إلى الكونفوشية، فكثيرًا ما طرح وجهات نظره من زاوية مراعاة مبادئ "العدل والاستقامة"، على النحو الذي أقرَّته الفلسفة الكونفوشية؛ ولأنه فيلسوف سياسي أكثر منه مفكِّر عسكري فقد كان يؤكِّد على أن "الانتصار هو أهم دعامة للقوة والمجد؛ مجد الدولة يعني"، ثم يقترح في موضع آخَر من الكتاب بأن تكون الحرب وسيلة لتحقيق وحدة الأمة؛ لأنها "أي الحرب" هي الطريقة المُثلى لإخضاع الممالك، ثم ما يلبث أن يفطن إلى ما تنطوي عليه الحرب من سلبيات تحول بينها وبين إيجاد الحلول لمختلف المشكلات، فيوصي القادة والأباطرة بضرورة التعمُّق في فهم ما تُمثِّله الحرب من وسيلة مهمة لتحقيق السيادة للممالك. وأوضح فرجاني أن نَفَر من النقاد تطرقوا أثناء عكوفهم على استكشاف الخصائص الفِكرية والفلسفية لنصوص الكتاب إلى فِكرة أن سونبين ـ وفي أنحاء متفرِّقة من كتابه ـ كان يتناول، وبشكل بدائي أو بصورة جنينية ملامح قريبة الشبه بالمادية الجدلية ـ أو قُل إنها أقرب ذات مضامين جدلية وإن لم تنهض بطريقتها في التحليل ـ إذ يقرِّر، مثلًا، في موقع ما من النص بأنه "لا بد من فهم طرق السماء وطبائع الأرض، ولا بد من ضمان تأييد الأهالي في الداخل، والتأثير في مشاعر الأعداء في الخارج، والإلمام بالطرق الثمانية، على النحو الذي يحقِّق النصر وقت الحرب، والاستقرار زمن السلم". وتابع "في تناوله لفكرة أهمية الهجوم، وحسب سياق محدَّد أثناء عرضه لأفكاره في الكتاب، راح سونبين يتقدَّم خطوات أبعد وأكثر تطوُّرًا مما عرض له الفيلسوف العسكري الأول سونزي؛ إذ إنه يؤكِّد على أهمية الهجوم على نحو مُطلَق، بل إنه يضع لهذه الفكرة/القاعدة مكانًا بارزًا في فلسفته، ويعدُّها الأساس النظري والمبدأ الأول وأهم ركن في أي بناء فكري لفن القتال. وتلك النقطة التي يختلف فيها عن الكتاب العمدة (فن الحرب لسونزي) بما يحقِّقه من طفرة أو درجة عالية من التطوُّر بذلك الطرح النظري. إن ميزة ما يُقدِّمه سونبين في كتابه هو أنه يلخِّص تجارب سابقة على درجة عظيمة من الأهمية، على ضوء ما خاضه هو نفسه من معارك، ومثلًا ففي فصل بعنوان «أحوال الجيش»، يتحدَّث عن أسباب النصر والهزيمة ويرى أن الحرب ليست هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن الارتكان إليها ولا هي الطريقة التي يمكن تجنبها بالمرَّة. أما الأساس الذي تتحدَّد عليه أسباب النصر أو الهزيمة فهو مدى توافر الاحتياطي والمؤن وعدالة الحرب. وفي فصل "التشكيلات القتالية العشرة" يتحدَّث عن أهمية الاستعداد القتالي ويتناول، بالتفصيل، أنماطًا متباينة من التشكيلات القتالية. ولما كانت الظروف قد اقتضت، زمن الدول المتحاربة، اتخاذ قادة محترفين على رأس الجيوش، فقد صارت معايير انتقاء القادة محل اهتمام كبير ومن ثَمَّ راح سونبين يستعرض في بعض فصول الكتاب الصفات الواجب توافرها في القادة العسكريين. وتسأل فرجاني: لماذا نترجم هذا الكتاب، والآن؟ وقال حول السبب العام "هذا كتاب تراثي يقع ضمن مجموعة الكتب العسكرية القديمة، وهي إحدى أركان مكتبة متفردة في موضوعها، حتى في مبحث المدونات الصينية التاريخية، فهي جزء من تاريخ الفكر العام، حتى بالمعنى الإنساني الكبير؛ لأن المادة التراثية الصينية ملك للبشرية كلها، وكتب الحرب الصينية شاملة لدلالات إنسانية عريضة، تتجاوز مفاهيم الصراع المسلح، فمحتواها يتسع لمجالات متنوعة في معنى التنافس والصراع، ليشمل كل ما يمكن أن يتصل بنوازع الإنسان إلى التفوُّق والغلبة حتى في ميادين السلم، ففي التجارة والدبلوماسية وإدارة الأعمال، بل الرياضة ومساجلات الانتخابات السياسية لون من المنافسة الحامية التي تتوسل بأساليب القتال، وإنْ بطرق أخرى، وقد أختلف مع الذين يقصرون قيمة الكتاب على الجوانب الفنية العسكرية، دون أن يمدوا أبصارهم إلى ما يحفل به من عناصر أخرى لتقدير مزاياه بوصفه مادة تراثية ذات مضمون فلسفي، بالإضافة طبعًا، إلى ميزته الجوهرية باعتباره وثيقة أثرية تكشف عن جانب من تاريخ الفكر الصيني، بوجه خاص؛ والإنساني، بوجه عام. هذا ومن نافلة القول التأكيد على أهمية الوعي بذلك التراث الثقافي، لا سيما أننا على وشك بدء زمان جديد يمتد الوعي الثقافي فيه، نحو آفاق الإبداع في منطقة تمثل بطبيعتها قطبًا من أقطاب التميز الثقافي والحضاري والإنساني، وهي منطقة أقصى شرق آسيا. إن وجودًا جديدًا ـ حتى بالمعنى الأنطولوجي! ـ يُضاف إلى حصيلة الوعي الإنساني بهذه الإطلالة إلى الشرق البعيد، وأظن أنَّ من المفيد، بهذا المعنى، إتاحة الفرصة للقارئ العربي للتعرف إلى مصادر التراث الصيني مترجمة عن أصولها (كلما أمكن).
مشاركة :