لا فائدة من الحُزن حين تتغيَّر المُدن | أحمد عبد الرحمن العرفج

  • 2/18/2016
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

عَلَاقة الإنسَان بالمَدينَة -أَي مَدينَة- تَترَاوح بَين الإعجَاب والعِتَاب، وأَحيَانًا الكَرَاهية وإبدَاء الغَضَب، بأسبَابٍ وبغَيرِ أسبَاب..! قَالوا: إنَّ المُدن كالنِّسَاء، وقَالوا: إنَّ المُدن كالكُتب، وقَالوا: إنَّ المُدن كالأَطْعِمَة والأَشْرِبَة.. قَالوا كَثيرًا، وسيَقولون الأكثَر، ولَكن عَلَاقة الإنسَان بالمَدينَة؛ لَن تَستَقرّ، ولَن تَبلغ ذروَة الحَميميّة، طَالَمَا أنَّ الإنسَان يَكبُر ويَتغيَّر، والمُدن تَتحوَّل وتَتبدَّل..! قَبل أَيَّام، كَتبتُ قصّة قَصيرة تَقول: (سَألني: هَل تَلوم المُدن حِين تَتغيَّر عَليك؟ قُلت: لَا، لَا أَلومها، لأنَّني أَنَا أَيضًا تَغيَّرتُ، كَمَا تَغيَّر الأَديب «تشارلز ديكنز»، فالتَمسَ العُذر لمَدينته قَائلًا: (مَن أَنَا حتَّى أَعيبُ المَدينَة لأنَّها تَغيَّرت، وقَد عُدتُ إليهَا بَعد سِنين، بَعد أَنْ غَيَّرتني الأيَّام؟)..! لقَد دَار بَيني وبَين المَدينة المُنيرَة -حِين زُرتُها مُؤخَّرًا- حِوارٌ لَا تَنقُصه الصَّرَاحَة، ويَمتلئ بالوضُوح والفَصَاحَة، حَيثُ أَمطَرْتُها بأَسئِلَتي قَائلًا لَهَا: هَل تَذكُرين وَجهي يَا مَدينتي العَزيزَة؟ لقَد نَشأتُ فِيكِ طِفلًا، وخَبرتُ شَوارعك وأَزقّتك، وحَواريك وبَساتينك، ومَزارعك الوَارِفَة، وهَا أَنَا أَعود إليكِ اليَوم، بَعد أَنْ خَلعتُ ثَوب الطُّفولَة، وارتَديتُ ثَوب الرُّجُولَة، لأَسأَلُكِ: لِمَاذا تَغيَّرتِ أيَّتهَا المَدينَة..؟! قَالت بكُلِّ هدُوء وشمُوخ وسَكينة -وهي تَلْعق شَفتيهَا-: كَيف تَسألني وأنتَ الجَوَاب؟ أنتَ تَكبُر وأنَا أَكبُر، فلَا أنتَ ولَا أَنَا مِثل عَامود الكهربَاء؛ الذي تَمرُّ عَليه الأيَّام، فلَا يَكبُر ولَا يَتغيَّر، ولَا يَتبدَّل ولَا يَتحوَّل. يَا «أَحْمَد» إنَّكم تَكبُرون وتُسَافرون وتَتغرَّبون، ثُمَّ تَعودُون إلينَا مُعتقدين أنَّنا كالصُّخور، سنَبْقَى كَمَا نَحنُ، لَا يَا حَبيبي، فالمُدن كَائِنَاتٌ حَيَّة، تَأكُل وتَشْرَب وتَنمُو.. أَلَم تَسمَع بروَاية: «مُدن تَأكل العُشب»، التي كَتَبَهَا «عبده خال» ابن «خَالتك جازان»؟ إنَّكُم تَظلموننَا نَحنُ المُدن، حِين تُطالبوننا بالأصَالةِ والثَّبَات، والحِفَاظ عَلى الرَّوحَانيّة، ثُمَّ تَهجروننَا، وتَنسون أنَّ عَوامِل التَّعرية تَمرُّ بجِبَاهَنَا، قَبل أَنْ تَمرُّ بأَطرَافِكُم.. لِقَد غَيَّركُم إغوَاء الطَّفرَة يَا «أَحْمَد»، ونَحنُ أيضًا نَال مِنَّا إغرَاؤها، فغَيَّرنا شَوارعنَا، وزَحْزَحْنَا مَبَانِينَا، وأَحَلْنَا التُّرَاث والتَّاريخ إلَى المَتَاحِف والمَكتَبَات.. كُلُّ ذَلك حَدَث حِين تَركتمونَا؛ واستَوطننَا أُنَاس غُربَاء، ذَابَت غُربتهم في أحضَانِنَا مَع الوَقت، فأَصْبَحوا هُم سُكَّاننا وأبنَاؤنا..! حَسنًا.. مَاذا بَقي؟! بَقي أنْ نُطَالبكم بأنْ تَكونُوا مَنطقيِّين ومُنْصِفين، حِين تُحَاسِبُون المُدن، فإذَا كُنتَ تَكبُر، فالمَدينَة تَكبُر مِثلك، وهَكَذَا هي سُنَّة الدُّنيَا..!! تويتر: Arfaj1 Arfaj555@yahoo.com

مشاركة :