تأخذنا الذاكرة، ويرحل بنا الحنين، كلما ذهبنا إلى الزمن والأصوات التي نُحب، كل ما حولنا يرتبط بالذاكرة، مكاناً، بشراً، طبيعةً، أغنيات، عطوراً، الذاكرة مخزن العمر الذي نختبئُ فيه بكل ما نحمل من وهنٍ نفسي وضعفٍ بشريِّ، نختزل المواقف والأحداث في أعماقنا لنستدعيها عند الشعور بالوحشة، والوحدة والشوق لما مرّ من أيام نؤوب إليها كلما أتعبنا الوقت، وأرهقتنا علاقاتنا الإنسانية، وأخذتنا مراوح الزمان نحو ذاك الدوران الذي لا يهدأ. رحيل الفنان الكبير عبدالكريم عبدالقادر الذي ولشدّة تعبيره عنّا، وترجمته لما يختلج في أعماقنا من مشاعر أسماه جمهوره الصوت الجريح، تشعرُ وأنت تقول «الصوت الجريح» بأن ثمّة جرحاً يدمى، يا لحساسية الاسم، كأنما بدويةٌ تغزلُ معطف الشتاء في كلّ وخزةٍ من إبرتها يصرخ الألم، هكذا هو صوت «بوخالد رحمه الله»، كم حملَ من مشاعر وأمنيات وآلام جيل تعلّق بدفئه وشجو البوح في نبرته الحزينة، جيل أحب، وفارقَ، وتعلّق، وتألم، وفرح، وحلّق بسعادة مع تلك الأغنيات. نحنُ جيل «ما نسيناه، وباعوني، وتأخرتي، وردّي الزيارة»، إضافة إلى «غريب»، تلك الأغنية التي صوّرها وهو يسير في ممشى طويل وكأنه يعبرُ أبواب الغربة، أوجعنا رحيله الذي يذكرني برحيل عبدالحليم حافظ، فقد سقطت معه بعض جدران ذاكرتنا التي حملناها معه في حقائبنا المدرسية، وعلى مقاعدنا الجامعية، وفي لقاءاتنا، تأثير الكلمة التي صدح بها صوته وكتبها كبار الشعراء، ولحنها أجمل الملحنين في الخليج كان قوياً، ومؤثراً، كم سهر العُشاق مع «سرى الليل يا قمرنا، ولا جيت في سهرنا، وأنا أخاف يا قمرنا، خذاك الليل والهوى». حالة من التوحد مع الكلمة واللحن والحالة الشعورية، أغنيات زمان، إن صحّ التعبير، كنّا كلّنا شعراءها وملحّنيها ومؤدّيها، كأنما كانوا يكتبون على أصوات جراحِنا، ويُلحّنون على أوتارِ قلوبنا، جيل بكامله عاش تلك المرحلة والحالة الوجدانية الشفافة، لم يكُن الفنان بمعزل عن جمهوره، وسيلتنا للوصول إلى أصواتهم كانت أشرطة الكاسيت وأجهزة قديمة هي ليست كالأجهزة الحديثة التي تغيّر الأصوات، وتنسخ الأغنيات، وتمسخ المشاعر الحقيقية. كانت تسجيلات زينل فون، والشعب في دبي، والعندليب في أبوظبي، وعلي صالح والعيناوي والوادي وصفصوف في العين، وسيلتنا للحصول على تلك الكنوز الفنيّة الغنيّة بالكلمات العذبة، وكان التسابق نحوها للحصول على الجديد من الألبومات مشحوناً بالترقب، فالكل ينتظر جديد عبدالكريم عبدالقادر، وعبدالمحسن لمهنا، وطلال مداح، ومحمد عبده، وعتاب، ورباب، وعلي بن روغة، وميحد حمد، ومصطفى أحمد وغيرهم، ذهب ذاك الوقت بفرسانه وأغنياته، وبقيت الذكريات وحدها سميرنا في الليالي الموحشات.
مشاركة :