الجناحُ من الفعل جنَحَ، وهذا بعض ما طارَ إلينا به زاجلُ لسانِ العرب: «جنح: جنَح إليه يجنَح ويجنَح جُنوحاً، واجْتَنح: مال. ويقال: أقمت الشيء فاستقام. واجتنحتُهُ أي: أملْتُه فجنح؛ أي: مال. وقال الله عز وجل: (وإنْ جَنَحوا للسّلمِ فاجنَحْ لها) أي: إنْ مالوا إليك فمل إليها، والسلم: المصالحة، ولذلك أنثت، أي: إنْ مالوا إليك فمل إليها. ويقال: كأنه جُنْحُ ليلٍ يشبّه به العسكر الجرّار، وفي الحديث: (إذا استجنح الليلُ فاكفتوا صبيانكم) المراد في الحديث أول الليل». وما يعنينا هنا هو الجَناحُ وهو ما يطيرُ به الطائرُ ونحوَهُ، وهو الجانبُ، وأحدُ طَرَفَيْ الإنسان: اليَدُ وَالإِبْطُ وَالعَضُدُ، ويدا الإنسان جناحاه، وهو كذلك الرّوْشَن، وهو الطائفةُ من الشيء، ومِن مرادفاتِه: الحُجْر، والحِضن، والحِماية، والظّلّ، والكَنَف، حسب معاجم اللغة العربيّة. ولو أنكَ استبدلتَ الضّمةَ بفتحةِ الجيم في جَناح، لعلمتَ سرّ عظمةِ لغتِنا العربيةِ الرصينةِ المبينة، إذْ سيتحوّلُ الحُجْرُ والحِضْنُ والكنَفُ إلى إثْمٍ وجُرْمٍ في جُنَاح! (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5 الأحزاب. ولا ترِدُ مفردةُ جناحٍ إلا ونتذكرُ قولَه سبحانه وتعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24 الإسراء. فترقّ قلوبُنا، ونحنّ إلى والدينا في الحضورِ وفي الغياب، فنطبعُ القبلَ على أجبنتهم، أو نسجدُ فنرفعُ الدعاء! وكذلك قول الرحمن الرحيم مخاطباً نبيَّه نبيَّ الرحمةِ محمداً العربيّ الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: ( لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) 88 الحجر. فأين أهلُ الإرهابِ والفتنةِ والقتلِ والتدميرِ والتفجيرِ والتهجيرِ مِن هذه الآية؟! والجناحُ يعني العلوّ والحركة والطيران، لكنه يعني الحِضن والخضوع والتواضع والسكينة وبالتالي الرحمة. وحركةُ الجناحِ رفيفٌ وخفقانٌ وتحليقٌ وطيران. والمتأمّلُ في كائناتِ الله المحلّقة، وحركةِ أجنحتِها كالطيورِ، فيما شاهدنا ونعرف، يودّ لو كان مثلَهنَّ في طيرانهنَّ، وحتى في سكونهنَّ وتسبيحهنَّ وتغريدهنَّ وغنائهنَّ، وحتى في نواح القمريّ بينهنّ. كما يلحظ الفارق بين نشوة الطير لدى نهوضها عن الأرض، واندفاعها نحو السماء في ارتقاءٍ أخّاذٍ، وبين خضوعها ورقتها وحنوّها عندما تخفضُ أجنحتها وتضمها، لكأنك تلحظُ مزيجاً من الرضى والحزنِ الذي لا يفسّرُ، لكنه يشبه وجوه أصحاب القلوب المؤمنة الصافيةِ البيضاء، وسكينةً تشبهُ شرودَ المتأمل الحكيم. ولهذا جاء التوصيف القرآني (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) محاكياً حالة الطير في خضوعها، ومطابقاً لصورتها، مما يحرك مشاعرنا، ويؤثر فينا تأثيراً عميقاً حدّ الرعشةِ والبكاء، أو يأخذنا بيديه إلى مواطن الحزن النبيلِ، فيصحو الضميرُ ويطيرُ بنا إلى والدينا على أجنحةِ النقاءِ والصفاءِ والدعاء أأحياءً كانوا بيننا، أمْ أمواتاً عند ربهم وربنا. وهنا توصيفٌ قرآني لحركةِ الطيرِ، والقرآن يدعونا دوماً للتأمل والتدبر والتفكير بعمق، فيما يدعونا بعض الغوغاء اليوم إلى تعطيل الفكر والأسئلةِ والحوارِ، ولولا الأسئلةُ لما نما الفكرُ، ولما دارت عجلةُ الحضارة: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) 19 الملك. (أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) 79 النحل. والجَناح يأخذ بعداً خيالياً فطرياً يدلّ على عبقرية جرير في رائعته، وكل أبياتها حكمة وجمال، هذه القصيدة التي تصرّح ولا تلمّح، وتشيرُ إلى عبقرية الذائقة العربيّة منذ البدايات الأولى مروراً بالعصور، فلا لغةَ كلغة العرب، ولا شِعرَ كشعرِهم: أتصحو أم فؤادكَ غيرُ صاح عشيّةَ همّ صحبُكَ بالرّواحِ تقُولُ العاذلاتُ: عَلاكَ شَيْبٌ أهذا الشيبُ يمنعني مراحي؟ وهنا الريش والقوادم والجناح، جناحُ جرير: سأشكرُ إنْ ردَدْتَ عليَّ ريشي وَأثْبَتَّ القَوادِمَ في جَنَاحي ألَسْتُمْ خَيرَ مَن رَكِبَ المَطَايا وأندى العالم ينَ بطونَ راحِ وحلم الإنسان بالأجنحة والطيران قديمٌ قِدَمَ الإحلامِ، وقدْ تحقّقَ حديثاً عبْرَ المنطادِ والطائرة والمظلّةِ فاختُصِرت المسافات وقرُب البعيد، ثم ذهب الإنسانُ أبعدَ من ذلك فبلغ القمر وسارَ على سطحه، وسبح في الفضاء، وأقام المحطات الفضائية، وبلغ بتقنيته وأجهزته الحديثة الكواكب الأخرى. ولعلّ أوّلَ من راودَهُ الحلم ممّن نعرفُ عباس بن فرناس، ولا شك أنّ هنالك كثيرٌ ممّن حلموا بذلك ولا نعرف، لكنّ ابن فرناس الأندلسيّ هو أولُ من حوّل الحلمَ إلى حقيقةٍ، وذلك في العصر الأمويّ، وقد كان عالماً شاملاً وشاعراً، فطار بأجنحةِ الحقيقةِ والعلم، كما طارَ بأجنحةِ الخيال، ولولا الخيال لما كان الابتكار كما يقول «نيتشه»، أو شيئاً من هذا القبيل ما قال، ولكنّ هذا ما تدوّنهُ الذاكرة! وهنا شعرٌ صنعانيٌّ بديعٌ لـ«الآنسي الابن» القاضي أحمد وهو ابن القاضي الشاعر المبدع عبد الرحمن الآنسي، يتمنى فيه أنّ له جناحَ قمريٍّ لينوحَ، أوْ يطيرَ مثلَهُ إلى من نزحوا ونأوْا: جلَّ منْ نفَّسَ الصّباحْ وبسَطْ ظلّهُ المديدْ ألْهَمَ القمري النياحْ يشتيَ النازحَ البعيدْ آهْ لوْ كان لي جناحْ كنت مثلَهْ وعادْ أزيدْ ربةَ القرطْ والوشاحْ والّلمى الحالِي البديدْ قتَلتْني.. بلا سلاحْ وادعتني لها شهيدْ. مقالات أخرى للكاتب الفقرُ والغِنى! الفجرُ والحبُّ والسلام وطَنْ مَنْ قَالَ إنَّ الْحُبَّ غَيْرُ مُبَاحِ؟! يَمَنْ!
مشاركة :