هناك قصة عادة ما يرويها الناس حول العالم، بأن العبقرية اندثرت مع العقد الماضي بحلول عصر الآلة التي تفكر وتقوم بالعمل نيابة عن الإنسان، وعززت الفرص لجوانب التقنية على حساب القيمة الفكرية، وبالتالي تضاءلت تنمية القدرات التي يدعمها العقل وخاصة في الشرق الأوسط، إضافة إلى العوامل المتعددة المبعثرة لتلك الطاقات، التي تحرض على الإبداع والعبقرية. ثم إن كل عمل إبداعي يساعد على فهم الواقع بكيفية أفضل، فتختلف هنا فروض العالم حسب التجارب والمعطيات، وأما الحقيقة التي يجري الحديث عنها فهي : تراجع مراكز المبدعين والعباقرة العرب على مستوى العالم، ليشع نورهم كبقية الأسماء التي توجتها المنصات لتبقى أعلاما مؤرخة كلما تقادم عليها الزمن، ولكن هناك قصة وخدعة بين المعلوم والمجهول، وعقدا من الزمن لم يدرك الضرورة الكلية. وهذه إحدى شخصيات "مالكوم جلادويل " العبقرية، لقد كبر "روبرت أوبنها يمر" في واحد من أثرى أحياء مانهاتن فيزيائي أمريكي ومدرس الفيزياء النظرية بجامعة بيركلي كاليفورنيا، وهو المدير العلمي لمشروع مانهاتن لتصنيع السلاح النووي الأول في الحرب العالمية الثانية، ويعرف وقتها ب والد القنبلة النووية، ثم ذهب إلى هارفارد ثم إلى جامعة كامبريدج كي يدرس الدكتوراهة في الفيزياء، فقد كان موهوبا ً في الفيزياء النظرية ،ومعلمه قد نال جائزة نوبل في عام 1948، فعندما كان طفلا له عقل مشابه كثيراً لعقل كريس لانجان الذي وهبه الله ذكاء خارقا، اعتبره والده عبقرياً. وكان يقوم بالتجارب المعملية في الصف الثالث ويدرس الفيزياء والكيمياء في الصف الخامس. وكانت له رحلات في مقتبل عمره إلى أوروبا يُؤخذ إليها لزيارة جده. ثم دخل هناك أفضل المدارس، وأكثرها تقدما في البلاد، حيث سطر الطلاب الذين كتبوا سيرته قائلين : كان يُغرس فيهم فكرة أنهم يتم إعدادهم كي يصلحوا العالم، ولي وقفة طويلة عند هذه العبارة وكيف يتم التمهيد والتهيئة للعلم والتفوق ومتى تشحذ العبقرية والتميز في رؤوس الطلاب، على عكس ما نلمس في مدارسنا وجامعاتنا، وكم خطة تعليمية لدينا مشابهة بل كم معلما يقصي الآمال والطموحات لدى طلاب مدارسنا؟ وكم صوت يصرخ في وجوه الصغار لكي يقفوا في طابور الصباح؟ وكم عدد الأساليب الفاشلة التي أخرست العقول الناشئة؟ أسئلة كثيرة لا يستطيع الإجابة عنها إلا ضمير المسؤول والمعلم .. اختفت العبقرية من ميادين التعليم منذ عكف المؤلف على حشو المناهج بلا جدوى، وأغلق الأبواب على ذكاء الأطفال منذ بداية صفوف الدراسة الأولى إلى نهايتها. ثم نعود ونكرر الأسئلة أسوة ب "مالكوم" حول بطل قصتنا، "أوبنها يمر" فهل تعامل مع جميع التحديات التي واجهته في حياته بذكاء كبير؟ وهل استجاب والداه لموهبة ابنيهما ضاربين مثالاً يحتذى به في الرعاية المكثفة؟ أسئلة علينا كباحثين في حقول التنمية الثقافية تكرارها على المجتمع والمسؤول وإحصاء الأعداد السلبية التي تصطف خلف هذا الإخفاق الملحوظ في المدارس والجامعات والنتائج المتدنية. وماذا بخصوص مجتمعنا هل يتوجب على الآباء المساندة وتكثيف الجهود لدعم الأبناء، واكتشاف مواهبهم وعبقريتهم مبكرا دون الاعتماد على المعلم والمدرسة والصدفة، أم أن الجميع يحتاج للرعاية؟ وبالمناسبة فإن أمنيات كثيرة نتمناها قد تخطاها العالم منذ زمن طويل، وعلينا تفنيد أربعة شروط أساسية في هذا النص وجب ذكرها: البيئة الصحية الصالحة للطفل، دعم الأهل للأبناء، وتفوق المعلم في حياته العلمية والعملية، وتحفيز المتفوقين والموهوبين. إن من أهم النقاط التي وردت في النص ويجب تسليط الأضواء عليها، تصحيح دور المعلم من موظف إلى مسؤول، ودورات مكثفة تثري تجربته قبل مزاولة مهام التعليم، والأخذ بعين الاعتبار روافد البيئة المغلقة وسلبياتها على الوقت الراهن وعلى الإنسان ككل، والتي أتى معظمنا منها، ونسبة الأمية بين الآباء والأمهات التي قدمت المعلم والطالب.
مشاركة :