جاءت مقولة «ألا تعرف فأنت عالم»، في حقلين معرفيين مهمين، أولهما في الفقه والثاني في الفلسفة، ففي الفقه وردت مقولة (من قال لا أعلم فقد أفتى) ويستشهدون لها بقصة الإمام مالك، حيث سُئل عن أربعين مسألةً، فقال في ست وثلاثين لا أدري وأجاب عن أربع، وهذه من أخلاقيات المعرفة الفقهية خشية أن يقع المرء في ذمة الناس ويقول عن الله ما لا يعلم، وستكون هذه قربى من الله وعلامةً على قوة الإيمان بالله وبحق الله، يقابلها فلسفياً مقولة «agnostic/ لا أدري» التي ابتدأت علميةً ثم أصبحت فلسفية، وقد ابتكرها توماس هكسلي العالم البيولوجي الأسكتلندي في القرن الثامن عشر، حيث وجد نفسه عاجزاً عن إثبات أو نفي وجود الخالق حسب ما لديه من علم وحسب محاولاته للوصول لجواب، وقصد بالمقولة أن يعلن عن عجزه ولم يكن يطرحها كنظرية فلسفية، ولكنها مع الزمن تحولت لتكون منهجيةً تعم بين الفلاسفة والعلماء، وينطلقون منها ليس للبحث عن الخالق كما فعل هكسلي، ولكن لتجنب فكرة البحث أصلاً، وعمت المقولة بشيوع مفرط واستسهال للقول، وكأنها عذرٌ عن «اللابحث»، وعدم الرغبة في العلم بتعمد إلغاء السؤال، وفي ذلك يقول دوكينز لو قلنا بوجود الخالق لتعطل البحث البيولوجي، أي أنه يجزم بعدم وجود الخالق أولاً ودون بحث ودون سؤال فقط ليشرع بعد ذلك في البحث في الكون الذي لا هو مخلوق من خالق ولا هو خلق نفسه، فقط هو موجود وكفى. وهذا تعطيل عقلي وذهني ومنهجي، ولا يمنح دوكينز نفسه فرصةً معرفية احتمالية، بل يقطع عبر إغلاق النظر، وهنا تتحول مقولة لا أعرف من مقولة أخلاقية علمية إلى مقولة فقط لتبتعد عن الله، فتخالف بذلك شروط البحث العلمي في معالجة افتراضات السؤال، والغريب فيها أن علماء وفلاسفة قبلوا بها، مع أن الشرط الفلسفي يؤكد أن الفلسفة هي مشروع في الأسئلة، ومع هذا يجري تعطيل أهم وأخطر سؤال يلاحق العقل البشري، وقد أشار كل من برتراند راسل وستيفن هوكينج إلى أن البشرية تتوق لمعرفة سر الكون، وتظل تتوق لهذه المعرفة، وعن خالق هذا الكون، غير أنهما معاً يعودان ويمتنعان عن طرح السؤال رغم أنهما معاً يؤكدان حاجة البشر إليه وإلى جواب عنه، فكيف إذاً يبرران لنفسيهما تجنب طرح السؤال الكبير هذا، وليس من سبب علمي ولا أخلاقي لذلك، ولن تقوم مقولة «لا أدري/ agnostic» في العلم وفي الفلسفة إلا بوصفها خللاً منهجياً عميقاً لأنها فقط تعطل السؤال، وتبني سياسة الهروب، وهذا ما منح المقولة راحةً ثقافية كأنها حالة تخدير عقلي تشبه الإدمان الذهني، وتتواتر المقولة بين الكبار مما سهل جريانها وتمريرها، رغم لا علميتها ولا أخلاقيتها المنهجية.
مشاركة :