شافاك تبحث معاني الانتماء والهوية والحب في 'جزيرة الأشجار المفقود'

  • 6/19/2023
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

ترتكز أحداث رواية "جزيرة الأشجار المفقودة" للروائية التركية البريطانية  إليف شافاك على الآثار الإجتماعية والإنسانية التي تسبب فيها غزو القوات التركية قبرص في يوليو/حزيران 1974 ثم في أغسطس/اب 1974 حيث طُرد نحو 150,000 شخص (يشكلون أكثر من ربع مجموع سكان قبرص، وثلث سكانها القبارصة اليونانيين) من الجزء الشمالي الذي احتلته القوات التركية من الجزيرة، حيث يشكل القبارصة اليونانيون %80 من السكان، ولاحقًا في عام 1975، أي بعد أكثر من عام بقليل، نزح نحو 60 ألف قبرصي تركي من الجنوب إلى الشمال، لينتهى الغزو التركي بتقسيم قبرص على طول الخط الأخضر الذي تراقبه الأمم المتحدة، والذي ما يزال يقسم قبرص وتشكيل إدارة قبرصية تركية مستقلة في الشمال. تروي إليف شافاك في روايتها الصادرة عن دار الآداب بترجمة أحمد حسن المعيني النتائج المأساوية لهذا الغزو كموضوع رئيسي. ومع ذلك، فإن الغرض الرئيسي ليس إخبار التاريخ. الهدف هو وصف الانفصال العاطفي بين مجتمعين يعيشان في نفس الجزيرة، والأحداث المؤلمة التي سببتها الحرب. إذا كان الهدف هو سرد التاريخ، فسيكون من الضروري العودة من عام 1974 وإخبار الأحداث التاريخية التي أدت إلى هذا المأساة. بعبارة أخرى، هذا الكتاب ليس كتاب تاريخ، إنه رواية ممتعة في رؤيتها ومعالجتها الجمالية والفنية تصف نتائج الغزو التركي انطلاقا من العام 1974. تتناول الرواية حكاية تبدأ أوائل السبعينيات عام 1974 على أرض قبرص حين التقت الفتاة التركية المسلمة ديفني البالغة من العمر 18 عامًا والشاب المسيحي اليوناني كوستاس البالغ من العمر 17 عامًا في إحدى الحانات، لتبدأ بينهما علاقة غرامية، رغم احتدام الصراع في قبرص بين اليونانيين والأتراك، الذي تفاقم بشكل مطرد في تلك السنوات. حيث أنَّ منطق الحرب لا يُبقي على شيءٍ دون تدميرٍ أو تقسيم. يفترق الحبيبان، ثم يلتقيان، ويبتعدان مرة أخرى، لكن الحب يأبى إلَا أن يفرض نفسه على الحاضر، لينتهى بهما الأمر إلى الزواج في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وينجبان ابنتهما آدا التي ولدت في لندن ولا تعرف قبرص ولا العائلات التركية واليونانية في قبرص، مما يخلق لديهما نوعا من الاكتئاب العاطفي. كان لقاء كوستاس وديفني في عام 1974 في جزيرة قبرص في حانة يسميانها منزلهما. الحانة هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يلتقي فيه المراهقان في الخفاء، حيث كان يمكنهما الاختباء تحت الحزم التي تتدلى منها أكاليل الثوم والفلفل الحار والأعشاب البرية. هذا هو المكان الذي يمكن للمرء أن يجد فيه أفضل طعام في المدينة، وأفضل موسيقى. ولكن هناك شيء آخر للمكان؛ إنه حميمي يجعل المرء ينسى، حتى لو لساعات قليلة، العالم الخارجي وأحزانه المفرطة. في وسطه، شجرة تين تتجلى من خلال تجويف في السقف. تشهد هذه الشجرة لقاءتهما الهادئة السعيدة، ومغادرتهما الصامتة والخفية؛ وتكون ـ هذه الشجرة ـ هناك عندما تندلع الحرب، وعندما تتحول العاصمة إلى ركام،ويفترق العاشقان. بسبب الحرب وأيضا حبه الممنوع، يهاجر كوستاس إلى لندن. ولكن بعد فترة يعود إلى قبرص ويتمكن من الزواج من ديفني، وينتقلانمعا إلى لندن لبداية حياة جديدة. كوستاس يأخذ شتلة شجرة التين معه من المطعم الذي دمر عام 1974، هذه الشتلة التي كان عليه أن يدفنها تحت الأرض لفترة لحمايتها من برودة لندن، إلى أن تمكن من زرعها. آدا الابنة تبلغ من العمر 16 عاما تعود إلى الجزيرة التي ولد فيها والداها. تسعى يائسة للحصول على إجابات عما جرى وتأثيرات الغزو التركي على الجزيرة، وتسعى إلى حل سنوات من الأسرار والانفصال والصمت. لتكتشف أن الصلة الوحيدة التي تربطها بأرض أجدادها هي شجرة التين التي تنمو في الحديقة الخلفية لمنزلهم، والتي حرص والداها على رعايتها. تعود  آدا إلى الجزيرة في السبعينيات، وبقايا الأمكنة السريةالتي  إلتقت فيها والدتها التركية المسلمة وأبيها اليوناني المسيحي، وخاصة هذا المكان الأكثر سحراً الذي يضم شجرة التين الحكيمة التي كانت شهادة على الألم والفرح. تركز شافاك في الرواية على الانتماء والهوية والحب والصدمة وفقدان الذاكرة من جانب وتخريبها من جانب آخر، والهجرة ليس فقط كعملية انتقال ولكن أيضا كعامل مؤثر على الهوية، وربما ترمي الإشارات التي لا حصر لها إلى الطبيعة، وخاصة الأشجار إلى الجذور، حيث تذكرنا المؤلفة بمهارة أننا جميعا مترابطون، وأن الأشجار والبشر تنمو جذورهما وتترسخ في الأرض، مما يشكل الهوية، لذا فإن مفتاح السعادة هو القدرة على حفظ الجذور مع تشكيل جذور جديدة، واكتشاف جزء جديد من أنفسنا. مقتطف من الرواية العاشقان قبرص 1974 ساعة، قبل منتصف الليل. البدر منير، بهيج، وقد مضى يوم على اكتماله. كان من عادة ديفني أن تحب البدر، غير أَّنها الليلة كانت تحتاج إلى ستار الليل. نهضت من سريرها، فخلعْت منامتها وارتدت تنورة زرقاء حزمتها بنطاق جلدي مطرز، وقميصا أبيض مزركشا شهد الجميع بأنه يليق بها. وضعت قرطيها، لا القرطين الذهبيين اللذين تصعب ملاحظتهما لفرط صغرهما، بل قرطيالكريستال إذ يتدليان إلى كتفيها، ويلتمعان لمعة النجوم. هكذا شعرت بأنها أكبر سنا وأكثر إشراقا. أوثقت رباطي حذائها معا، فعلقتهما حول رقبتها. كان عليها أن تكون هادئة كهدأة الليل نفسه. رفعت زجاج النافذة، وخرجت إلى عتبتها، ثم زحفْت على الإفريز قليلا. تناهي إليها صوت من بعيد، نداء خفيف من نغمتين. لعلها بومة تطارد فريستها. كتمت أنفاسها، تنصت. كان كوستاس قد علمها منظومة النعيق: نغمة قصيرة، فسكتة، فنغمة طويلة. كان ذلك أشبه بشفرة مورس للبوم. وصلت إلى فرع شجرة الفرصاد، فدفعت نفسها إليه في حذر. ومن هناك نزلت، من فرع إلى آخر، كما كانت تفعل في صغرها. وبمجرد أن قفزت إلى الأرض، نظرت إلى الأعلى لترى ما إذا كان هناك أحد يراقبها. ظنت للحظٍة أَّنها رأْت طيفا في إحدى النوافذ. أتكون أختها؟ لكن من المفترض أن تكون مريم نائمة في غرفتها. كانت قد تأكدت من ذلك قبل خروجها. تسللت إلى خارج الحديقة وبطنها ينقبض لفرط القلق. كان نور القمر ينعكس على أرصفةالحجر في الشارع الضيق، حتى صارت جداول فضية تتلألأ أمامها كما لو أنها تتزلج فوق الماء. سرعت خطواتها، وهي تسترق النظَر بين الوهلة والأخرى خشية أن يكون أحد يلاحقها. *** كانا في العادة يلتقيان هنا في أواخر الليل، في هذا المنعطف من الطريق عند زيتونٍة قديمة. يتمشيان قليلا، أو يجلسان فوق جدار خفيض، يتخفيان في الظلال، والظلمة وشاح أملس يغطي القلق. في بعض الأحيان، يطير فوقهما مالك الحزين برأسه الأسود، أو يمر من أمامهما قنفذ. مخلوقات ليلية تتكتم على أمرها كما يفعل هذان العاشقان. اليوم تأخرت. حين اقتربت من مكان اللقاء تسارعت أنفاسها. لا مصابيح في الشوارع، ولا منازل، لا شيء سوى الظلام يكاد يكون حالكا في المكان. فلَّما اقتربت أكثر ضيقت عينيها، تحاول أن تتبين هيئته بين الأشجار، لكنها لم تر شيئا. خرّ قلبها خوفا فلابد من أنه ذهب. لكنها ظلت تمشي في رجاء. "ديفني" لاسمها في لسانه لمسة ناعمة، بطريقته في نطق المد. تبينت الآن طيفه. طويلا، نحيلا، لا تخطئه العين. ثمة وهج برتقالي صغير يتحرك في تناغم مع يده. همس كوستاس: "أهذه أنت؟" فاقتربت منه وهي تبتسم. "نعم يا ذكي، ومن غيري؟ لم أكن أعرف أنك تدخن" "ولا أنا. كنت متوترا. فسرقت علبة أخي". "ولكن لماذا تدخن أشكم أولا تعرف أنها مجرد نفثات قليلة تختفي بمجرد أن تنفخ؟" فلما رأت عبوسه ضحكت. "أمزح معك.لا بأس، أبواي يدخنان. وقد اعتدت الأمر". يده في يدها، فتشابكت أصابعهما. لاحظت ديفني أَّنه أكثَر من الكولونيا. من الواضح أَّنهاليست وحدها التي تحاول أن تثير الإعجاب. قربته منها وقبلته. كانت ترى نفسها أكثر نضجا منه، بما أنها تكبره بعام. "كنت أخشى ألا تأتي" "أولم أعدك؟" "بلى، ولكن...." "نحن في أسرتنا نفي بالوعود دائما. هكذا ربانا أبي أنا ومريم". ألقى بعقب السيجارة وسحقها بحذائه. "إذن، لم تخلفي وعدا في حياتك قّط؟". "لا. ولا أظن أختي أخلفت وعدا. لست فخورة بهذا، فالأمر مضجر. بمجرد أن نعطي وعدا يتوجب علينا أن نلتزم به. لذلك أحاول ألا أقطع وعودا كثيرة". أمالت رأسها إلى الوراء، ونظرت في عينيه "لكنني أستطيع بسهولة أن أعدك بشيء. أنني سأحبك دائما يا كوستاس". كانت تستطيع أن تسمع دقات قلبه خلف صدره. ما بال هذا الولد الذي كان لطيفا كالندى في أول الصبح، يغني أعذب الأغاني بلغة لا تستطيع فهمها، هذا الذي يثرثر بحماس عن الشجيرات الخضراء والقبرات المتوجة، ما باله الآن تخونه الكلمات؟ مالت إلى الأمام، قريبا، حتى صارت تحس بأنفاسه على وجهها. "وأنت؟" "أنا؟ لقد تعهدت لك من قبل، منذ زمن طويل. أعرف جيدا أنني لن أتوقف عن حبك". ابتسمت، على الرغم من أَّن طبعها الشكاك لم يسمح لها بأن تصدقه. لكنها لم تسمح لنفسها أيضا بالشك فيه. ليس الليلة على الأقل. كانت تريد أن تحيط بكلماته، وتحميها، كما يحيط المرء شعلة براحتيه كي يقيها من الريح. قال كوستاس وهو يعطيها هدية صغيرة من جيبه: "أحضرت لك شيئا". كان صندوق موسيقى مصنوعا من خشب الكرز، بتصميٍم مرصع لفراشات ملونة على الغطاء ومفتاح به شرابة حمراء حريرية. "أوه، ما أجمله! شكرا...". حملت الصندوق عند صدرها، تستشعر برودته الناعمة. لقد أدركت أَّن كوستاس وفر شيئامن ماله كي يشتريه لها. أدارت المفتاح بحذر، فتعالت نغمة جميلة استمعا إليها حتى انتهت. "وأنا أحضرت لك شيئا كذلك". أخرجْت لفافة من حقيبتها. كانت رسمة الرصاص له وهو يجلس فوق صخرة، والطيورتسبح في الأفق، فيما تمتد مجموعة من الأقواس الحجرية من كل جانب. كانا قد تجولا قبل أسبوع عند القنطرة القديمة التي كانت فيما مضى تحمل الماء من الجبال في شمال المدينة. وعلى الرغم من خطورة اللقاء في وضح النهار، إلا أنهما قضيا عصر ذلك اليوم كله هناك، يتنفسان رائحة العشب.تلك هي اللحظة التي أرادت أن تلتقطها في الرسمة. حمل الرسمة عاليا، يتأملها في نور القمر "جعلتني وسيما". "لم يكن ذلك صعبا". تأّمل وجهها، وأصابعه تمر على نعومة وجهها. "أنِت موهوبة جدا". قبلة أخرى، فأخرى، لمدة أطول هذه المرة، يندفعان إلى بعضهما بعضا بإلحاح أكبر، كأنما يحميان نفسيهما من السقوط. مع ذلك، قد كان ثمة شيء من الخوف في حركاتهما، على الرغم من أن كل لمسة وكل همسة تزيد من هشاشتهما. جسد الحبيب أرض بلا حدود. تستكشفه، لا دفعة واحدة، بل خطوة مرتبكة فأخرى، تضل طريقك وتخطو في أوديته المشمسة، وحقوله المتموجة، فتجده دافئا مرحبا، لكنه بعد ذلك يأخذك إلى كهوف خفية، وحفر تتعثر فيها، وتجرح نفسك. أحاطها بذراعيه، ووضع خده على رأسها، فيما دفنت ديفني وجهها في عنقه. كانا يدركان أَّنه على الرغم من لقائهما في هذا الوقت المتأخر، إلا أَّن أحدا قد يراهما ويشي بهما. فالجزيرة، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، تمتلئ بالعيون التي تراقب كل نافذة مشبكة، وكل شق في جدار، ولدى كل باشق أحمر الذيل يطير عاليا، تحديقة كاسر لا ترف له عين.

مشاركة :