رؤية في الدراسات الشرقية - عبد الجليل زيد المرهون

  • 4/1/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

كيف تبدو التطوّرات الراهنة على مستوى "الدراسات الشرقية"؟ وما هي أبرز الموضوعات المستجدة فيها؟ يشير مصطلح "الدراسات الشرقية" إلى الأبحاث التي تتناول حضارات الشرق وتاريخه، وتقاليد شعوبه ومجتمعاته. وفي مدلوله الفعلي، التصق المصطلح بأبحاث المستشرقين، ومعاهد الاستشراق في الغرب، وما يصدر عنها من دراسات خاصة بالمجتمعات الشرقية. وفي الوقت الراهن، لا تكاد تخلو جامعة في أوروبا من وحدة خاصة بالدراسات الشرقية. وهناك معاهد مستقلة متخصصة تماماً في هذه الدراسات. وما ينطبق على أوروبا ينسحب أيضاً على روسيا وأميركا الشمالية وأستراليا. إن ما يُمكن قوله، على نحو مجمل، هو أن الدراسات الشرقية قد أضحت اليوم خليطاً من الجهود المؤسسية والفردية، ولم تعد حصراً على الأفراد. كما تراجعت كثيراً الإنتاجات الممولة من قبل وزارات الخارجية وشركات النفط ويُمكن أن نلحظ أن الإنتاج الأكثر بروزاً في الغرب على مستوى الدراسات الشرقية هو ذلك المتولد في دول ذات حضور تاريخي في الشرق، أو أن حضورها الراهن بات كبيراً ومؤثراً. وتمثل إسبانيا حالة خاصة على هذا الصعيد، حيث إنها ذات حضور تاريخي كبير في الشرق، بموازاة كونها إحدى الحواضر التاريخية المزدهرة للحضارة الشرقية ذاتها. وعلى الرغم من ذلك، فإن الإنتاج الأوسع للدراسات الشرقية في أوروبا هو في بريطانيا تحديداً. وبالعودة إلى مصطلح الدراسات الشرقية ذاته، تجب الإشارة إلى أننا أمام مصطلح قديم، بل أحد المصطلحات الأكثر قدماً في الدراسات الدولية. وفي الوقت الراهن، تقدمت للواجهة اختصاصات "فرعية"، بدت مستقلة وقائمة بذاتها، وغادرت على المستوى الأكاديمي الاختصاص الأصلي أو القديم، ونعني به الدراسات الشرقية. وقليل من الطلاب اليوم هم الذين يتجهون للدراسات الشرقية (Oriental Studies) بما هي فرع أكاديمي، وليس نطاقاً بحثياً يعتنون به في إطار اختصاصاتهم. النطاق البحثي تحديداً هو ما يُمكن أن تعتني به أية مقاربة لاستشراف التحوّلات التي طرأت على الدراسات الشرقية واهتماماتها. أما النطاق التعليمي (أو الأكاديمي) فأمره مختلف كلياً، لأننا -كما سبقت الإشارة- أصبحنا أمام اختصاصات بديلة (فرعية أو جزئية)، اشتقت من الاختصاص الأصلي لكنها غادرته منهجياً، ولم تعد ذات صلة به. وفي الأصل، فإن النطاق البحثي هو ما يُمكن التعويل عليه كجسر للتواصل الحضاري بين الغرب والمجتمعات الشرقية. هذا النطاق، نجح تاريخياً، ومازال قوياً ومؤثراً في حضوره، وهو جدير بالمتابعة والاهتمام. إن أول ما يُمكن ملاحظته في التحوّلات التي طرأت على الدراسات الشرقية، كنطاق بحثي، هو انتقالها من الجهود الفردية إلى العمل المؤسسي. يُمكن للمرء أن يلحظ بسهولة أن الدراسات الشرقية كانت مرتكزة إلى جهود فردية قام بها المستشرقون (أو الرحالة) الذين حطوا رحالهم في المنطقة لأغراض علمية، أو كانوا في الأصل مقيمين في دولها في إطار بعثات مهنية أو سياسية. هذه الملاحظة يُمكن أن نجدها، على سبيل المثال، في دراسات المستشرقين التي صدرت حول الشرق الأدنى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهي في معظمها دراسات بريطانية، مازال بالمقدور الرجوع إليها. وبعضها قد أعيد طبعه في سنوات متأخرة. وفي نتاجات تلك الفترة أيضاً، يُمكن العثور على عدد كبير من الدراسات التي صدرت مباشرة من قبل وزارة المستعمرات البريطانية، ووزارات الخارجية، وشركات النفط في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. هذه الدراسات، تعد وفيرة للغاية، على المستوى الكمي، كما من حيث نطاق اهتمامها. واعتباراً من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بدا بالمقدور ملاحظة الكثير من دراسات الاستشراق التي أنتجتها مؤسسات علمية، من جامعات ومراكز أبحاث، وصدرت باسمها مباشرة. ولكن هل أصبحت هذه الإصدارات متقدمة على الجهود الفردية؟ من المشكوك في ذلك. وإذا عدنا إلى بريطانيا، كنموذج، بمقدورنا القول إن الأمر ليس على هذا النحو، حتى يومنا هذا. لاحظوا، أن الكثير مما يُمكن وضعه في خانة الدراسات الشرقية، بما في ذلك بعض الأبحاث الكلاسيكية، مازالت تصدر من قبل أفراد، ويجري نشرها من قبل دور نشر تجارية معروفة. وعلى الرغم من ذلك، فإن ما يُمكن قوله، على نحو مجمل، هو أن الدراسات الشرقية قد أضحت اليوم خليطاً من الجهود المؤسسية والفردية، ولم تعد حصراً على الأفراد. كما تراجعت كثيراً الإنتاجات الممولة من قبل وزارات الخارجية وشركات النفط. ودعونا الآن نطرح السؤال التالي: ما هو التحوّل الذي حدث في الدراسات الشرقية على مستوى الأولويات والاهتمامات؟ بالطبع، إننا أمام مسار طويل للغاية. بل يُمكن القول إن الدراسات الشرقية قد ولدت مرات عديدة. وهذا استنتاج صحيح بالمعنى التاريخي. يُمكن أن نبدأ في مقاربتنا من القرن الثامن عشر، باعتبار أن الدراسات التي صدرت خلاله مازالت متاحة في غالبيتها، ويُمكن للمرء الوقوف عليها. وبداية، يُمكن القول، على نحو مجمل، إن الأبحاث السيسيولوجية والأنتروبولوجية كانت ولاتزال تهيمن على الجزء الأكبر من الدراسات الشرقية. في هذا الحقل، حدث التحوّل الكبير في الاهتمامات، أو بالأصح تطوّر، وبات أكثر قرباً للواقع ومعطياته. وهذا يعود جزئياً إلى تغيّر الزمن، وتبدّل وسائله، وزيادة الاندماج أو التواصل بين الأمم والشعوب. قبل بضعة قرون مضت، انكب المستشرقون على تأليف الكتب التي تتناول المجتمع بكل تفاصيله، من الزراعة والعمران، حتى أنواع الطبخ والألبسة. وهذا النوع من المؤلفات لم يكن بمقدوره الذهاب بعيداً في التحليل. وهذا أمر مفهوم ما دمنا نتحدث عن كتاب يتناول كل شيء تقريباً. هذه المؤلفات لا ترتقي إلى كونها دراسة حالات، أو دراسة وضع دولة (Country Study) بالمعنى المنهجي المتعارف عليه. بل هي أقرب ما تكون إلى السرد العام. بعد هذه المؤلفات، دخلنا عصر الدراسات الاجتماعية التي اعتنت بقضايا قائمة بذاتها. وبرزت، في هذا الإطار، على نحو مبكر، مسائل المرأة، والدين، والحرف المهنية، التي توصف الآن بالتقليدية. هذه مبدئياً دراسات الحقبة الثانية، في جانبها السيسيولوجي. وهي دراسات كثيرة بالمعنى العام، ومتقدمة علمياً على الانتاجات التي سبقتها. الحقبة الثالثة هي حقبة النفط. أو لنقل العقود الأولى التالية لاكتشاف النفط. وربما كانت هذه هي الحقبة الذهبية للدراسات الشرقية، في بُعدها السيسيولوجي. بالطبع، يصعب كثيراً إحصاء اهتمامات هذه الحقبة، إن في تعريفها العام، أو نطاقها الزمني الأولي، الذي يُمكن تحديده بالعقود الثلاثة التالية لبداية الاكتشافات النفطية في الشرق الأدنى. وعلى الرغم من ذلك، بوسعنا القول إن الدراسات الشرقية قد انكبت على الاهتمام بقضايا "التحوّل الاجتماعي" في دول المنطقة، الذي جرت فيه قراءة الكثير من المفاهيم والتقاليد، التي تحوّلت فعلياً، أو على نحو تحليلي/افتراضي. وهنا، عاد من جديد الحديث عن قضايا المرأة، وإن في سياق مختلف عن ذلك الذي اعتنت به الدراسات الأولى. كذلك، جرى الاهتمام بقضايا التحوّل من الاقتصاد الزراعي إلى الصناعة الاستخراجية، وانخراط المجتمعات المحلية فيها. كذلك، هناك الدراسات الكثيرة التي تحدثت عن "عصر الانفتاح" الذي حدث مدفوعاً بالتحولات الاقتصادية. وهذه الدراسات، رغم أهميتها، كثيراً ما حلقت في فضاءات نظرية، لم تكن دائماً منسجمة وتحليل واقع المجتمعات الشرقية وخلفياتها الثقافية. إذا انتقلنا، على جناح السرعة، إلى دراسات العقد السابع من القرن العشرين، سوف نجد أنفسنا أمام ما يُمكن وصفه بمسار جديد في الدراسات الشرقية، ركز على دراسة علاقة المجتمع بالموروث الثقافي، وتفسيره لهذا الموروث، وما إذا كان تفسيراً راديكالياً أم معتدلاً. هذا التحوّل، مثل أحد الاتجاهات الجديدة في الدراسات الشرقية. وهو اتجاه مستمر، كتبت في إطاره الكثير من الدراسات والأبحاث. وقد يكون من النادر أن نجد مركزاً للأبحاث السيسيولوجية أو السياسية ذات الصلة بالشرق لم يهتم يوماً بهذه القضية. الاتجاه الآخر المستجد، في إطار الدراسات السيسيولوجية ذاتها، هو ذلك الذي عُني بمقاربة قضية الإرهاب، من حيث جذوره، أشكاله، تبعاته، وسبل معالجته. هذا الاتجاه من الدراسات الشرقية يشهد الآن حضوراً كبيراً، ويحظى باهتمام متقدم، وتسخر من أجله الكثير من الإمكانات. وبالطبع، لا نستطيع في هذا الايجاز ذكر كافة الاتجاهات المستجدة، أو التي أعيد إنتاجها، في هذه الدراسات، إلا أنه يُمكننا التأكيد بأن الدراسات الشرقية تشهد اليوم تحوّلاً في اهتمامات الكثير من فروعها. abduljaleel.almarhoon@gmail.com

مشاركة :