القراءة أساس الوعي الثقافي والحضاري، وحجر أساس النهضة المجتمعية، والقراءة تستطيع أن تفتح آفاقاً جديدة للإنسان لتوسيع مداركه ووعيه ومعرفته. لذا، فلا غرابة أن كانت «إقرأ» أوّل كلمة أُنزلت على قلب رسولنا الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقد قال الأستاذ عبّاس محمود العقّاد: «أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة دون غيرها هي التي تُعطيني أكثر من حياة». ولو أردنا في البداية أن نعرف من هم قُرّاء الكتب في البلاد العربية، وذلك من خلال الاطّلاع على حجم ونوعيّة الكتب المُباعة في معارض الكتاب، ومن خلال استعراض سجلّات المكتبات العامّة، ومبيعات دور النشر، وشركات التوزيع؛ لخرجنا بنتائج أقرب ما تكون إلى الواقع. ففي دراسة نشرت نتائجها مجلّة «العربي»، تبيّن أن غالبية جمهور القُرّاء العرب شباب تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين. وربّما كان تعليل هذه الظاهرة، أن الفتى قبل الثامنة عشرة يكون غير قادر على اقتناء الكُتب لأسباب مادية، ولضآلة ثقافته، ولتشتّت اهتماماته. كذلك فالشاب بعد سنّ الخامسة والعشرين يكون غالباً قد أنهى دراسته الجامعية، وبدأت مسؤوليات الحياة تملأ وقته وتشغل تفكيره. فجمهور القُرّاء العرب إذن شبان وشابّات يودّعون عهد الفتوّة ليستقبلوا مرحلة الشباب، أي أنهم لم ينسوا فترة المُراهقة بعد، وما يكتنفها من جموح وخيال ومُغامرات، وما يُرافق ذلك كلّه من سطحيّة. فإذا كان هؤلاء هم غالبية القُراء العرب، فلا غرابة أن تكون الكُتب المقروءة هي الروايات والمُغامرات التي تُرضي خيالهم، ودواوين الشّعر التي تخلّت عن الرزانة، كما تخلّت عن الوزن، لتُدغدع عواطفهم! وحين نفترض أن أغلب القُرّاء هم من الشباب، يظهر لنا ما يُثبت هذا الرأي حين نرى الكهول والشيوخ في بلاد الغرب والشرق، في قاعات المكتبات، وفي القطارات والبواخر والطائرات، وفي الحدائق وغُرف الانتظار؛ وهُم يحتضنون كُتبهم وينصرفون إليها، في مشهد مُتكرّر لا نراه كثيراً في بلادنا العربية. وحين نحاول معرفة اتجاهات القرّاء العرب نلاحظ ما يلي: أن الكتب المترجمة تحوز على ثقة القرّاء أكثر مما تحوزها الكتب العربية، بدءاً من مؤلّفات عمالقة الأدباء العالميين أمثال: هيغو وغوته وغوركي وبرنارد شو، إلى كُتّاب أوروبيين معاصرين مغمورين. على أن أكثر الكتب المترجمة إقبالاً هي تلك التي تكون مواضيعها عن العرب: زُعماء وقوميّة وتاريخ وعادات. تتّجه القراءة نحو الكتب الأدبية بصفة عامّة، مُهملة الكتب التي تتناول موضوعات علمية، ممّا يجعل القرّاء العرب لا يعيشون عصر العِلم كما ينبغي ولا يُجارون تطوّر الحياة الحديثة، التي يقوم أساسها على العِلم قبل كلّ شيء. من الطريف ملاحظة أن غلاف الكتاب وعنوانه لهما تأثير في رواجه! فقد أصبح إخراج الغلاف واختيار العنوان يوازي ما يضعه المؤلف في مئات الصفحات من محتوى الكتاب، وكم من الكتب راج سوقها بسبب غلافها الملوّن الأخّاذ، وعنوانها المثير للاهتمام، وكم من الكتب جنى عليها غلافها أو عنوانها العادي البسيط. على أنه من المؤشّرات الإيجابية لحاضر ومستقبل القراءة في العالَم العربي بصفة عامّة، أنه على الرغم من تكرار مقولةٍ حاول الكثيرون إقناعنا بها وصدّقناها، بأن العرب لا يقرؤون، فإن الإحصاءات الأخيرة أثبتت عدم صحّة هذه العبارة. فقد أظهرتْ دراسة حديثة أجرتها منظمّة NOP World Culture Score Index بالاشتراك مع صحيفة الإندبندنت البريطانية لعام 2018، أن جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية دخلتا ضمن العشر دوَل الأكثر قراءة عالميّاً. متفوّقتان بذلك على دوَل متقدّمة كاليابان والولايات المتحدّة الأمريكية وغيرها. كما كشفت نتائج مؤشّر القراءة العربي الذي أعدّته مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بالاشتراك مع برنامج الأُمم المتحدّة الإنمائي في عام 2016، أن هناك إقبالاً ملحوظاً من المواطن العربي على القراءة، وذلك على عكس البيانات والإحصاءات التي نُشرت سابقاً عن المنطقة العربية. فقد بلغ المُعدّل العربي لساعات القراءة سنويّاً، حسب نتائج المؤشّر المذكور، أكثر من 35 ساعة، فيما بلغ المتوسّط العربي لعدد الكتب المقروءة سنويّاً أكثر من 16 كتاباً. ونُعدّ هذه النتائج ردّاً موضوعيّاً على الأرقام المُتداولة حول ما يعتبره البعض أزمة قراءة في العالم العربي، وتأكيداً على أن الصورة ليست بالقتامة التي تُروّجها بعض التقارير أو المواقع الإلكترونية؛ من قبيل أن مُتوسّط مُعدّل القراءة في العالم العربي لا يتعدّى الربع صفحة للفرد سنويّاً، وأن المواطن العربي يقرأ بمُعدّل 6 دقائق سنويّاً! كما ورد في تقارير التنمية الثقافية العربية.
مشاركة :