اخْتِلاف العِباراتِ باخْتِلاف الاعْتبارات:

  • 1/4/2014
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

مِفتاحُ المَعْرِفةِ والعلم تَصَوُّراً عن فقهٍ وفهمٍ: أن يكون ما أريد أن أَتَلقّاه منك، أو تَتلقَّاه مِنِّي مُحَدَّداً بعبارة واضحة لا التباس فيها.. إلا أنه غلب كثيراً عند الخاصَّة والعامة (سُوءُ التعبير) الحاجِب عن إيصال المراد بلغة واضحة مُحَدَّدة لا لَبْسَ فيها؛ ومن أجل ذلك وُلِدَتْ (الفلسفة التحليلية اللغوية) التي كان أحدُ رُوَّادها من العرب الدكتور زكي نجيب محمود عفا الله عنه، وموجزها: (أريد أن أفهم ما تقول بوضوح وبلا لبسٍ)؛ وسببُ التباس المراد وغموضه تَوَسُّع دلالات اللغة ولا سيما لغتنا العربية؛ فهي (بشهادة ذوي الاختصاص) أوسع اللغات تعبيراً ولا سيما من جهة كثرة المُترادفات، وسعة المجازين اللغوي والأدبي.. وهي بمعاناتي وخبرتي ذات فروع في المفردة الواحدة يحار الذهن في الجمع بينها ورَدِّها إلى أصل واحد؛ ولهذا فالسعةُ في التعبير، وكثرة الاختلاف بين المعاني: تقتضيان تنزيل المعنى على المُراد بوضوح مُحدَّد ببرهانين أكثرتُ من التذكير بهما، وهما برهان التصحيح من اللغة وليس من الشرط أن يكون هو الأظهر في جمهور كلام الناس، وبرهان ترجيح المُراد؛ وهذا هو معنى (اختلافُ العِباراتِ باختلافِ الاعتبارات)، وهي جملة استعرتُها من أبي البقاء الكفوي رحمه الله تعالى في تعريفه الفِكْر بكتابه الكليات، وتلك الجملة قاعدة صحيحة حتميَّة في تخاطب الناس؛ لِـيُحَدِّد كلُّ واحدٍ منهم مُراده من لغة قومه بلا لبس؛ وبهذا يحصل تَصَوُّر المَعْرفة والعلم، وهما مُفْردتان لُغويتان، وَمَفْهُومَا مَعْنَييهُما إجمالاً حاصلان عند العامة والخاصة، ولكنْ حينما أُرِيدَ تحقيق المعنيين بتحديد تأصيلي يحصل به الوضوح والتمييز: جُعِلا حقلاً علمياً مستقّلاً بعنوان: (نظرية المعرفة)؛ وذلك عندما أصبح تحليلُ الحسِّ وإدراك العقل حفيلاً مُؤَصَّلاً عند الغربيين.. إلا أنهم مَزَّقوها بالمذاهب العدوانية التي جعلت لكل فيلسوف اصطلاحاً؛ فهذا شتات يُتْعِب المحقِّق في التَّخلُّص منه ولا يُحيله.. كما أنهم حَجَّموا النظرية بالمعرفة وأهملوا مفردة العلم التي هي معرفة وزيادة.. وكلمة (نظرية) اسم منسوب إلى نظر الحس بحضور العقل؛ لتكون المعرفة الحاصلةُ بالحسِّ مباشرة، ثم يكون نظر العقل فيما تصوَّره؛ لتحصل له زيادةُ علمٍ بالمحسوس الذي تصوَّره؛ وذلك إضافة إلى الإدراك المباشر من الحس، وليعلم أحوالاً وأوصافاً عن واقع لم يكن في قبضة الحس المباشر.. والنظرية تسميةٌ مُوَفَّقة؛ لأنها تشمل اليقين والرجحان والاحتمال والوهم والخطأ نفياً أو إثباتاً في الأمور كلِّها؛ فتكون بهذا الشمول حقلاً علميّْاً مستقلاً يؤصِّل نظر البصر والبصيرة، ويُبيِّن كل جزئية من النظرية بما يحصل به التصور الكافي المُحدَّد بوضوح لا لبس فيه؛ذلك أن النظر هو سبيل الرؤية وليس هو الرؤية نفسها.. ألا ترى أن نظر العين يمتدُّ إلى جهةٍ على أملِ أن يرى شيئاً يقصد رؤيتَه - ومن ههنا جاء معنى التأمُّل -، أو يتَّجه نظره إلى شيئ في يده على أن يرى صفةً أو جزئية فيه، وقد يحصل النظر ولا تحصل الرؤية؛ ولهذا يستعين بالله ثم بنظر الآخرين لعله يرى ما رأَوْه ؟!.. وهكذا التفكر سواء بسواء، فهو نظر البصيرة، وهذه تجرِبة في وِجدانْ كل فردٍ لا تحتاج إلى الاستشهاد بقول أحدٍ، ولكنني أتطوَّع بتأنيس القارئ بما بيَّنه فحول العلماء.. قال الشريف الرَّضي [ - 406 هـ] عفا الله عنه في حقائق التأويل ص 253/دار الأضواء ببيروت: ((النظرُ تقليب الحدقة الصحيحة في جهة المرئي التماسا لرؤيته، وكل راءٍ ناظر، وليس كلُّ ناظرٍ رائياً؛ فكان حقيقته الطلب؛ لأن الناظر يطلب الرؤية، والمفكر يطلب المعرفة، والناظر بمعنى المنتظر يطلب الشيئ الذي ينتظره، ويُعلِّق خوفه أو رجاه به.. وأنشدنا شيخنا أبو الفتح عثمان بن جني عن أبي علي الفارسي قول ذي الرمة:

مشاركة :